إن المتتبع لحركة التنوير الأوروبية يلمح مدى الوقت الذي أخذته العملية التنويرية لكي تنضج على أسس راسخة ومتينة .. ولكن عملية جلب أي تجربة أخذت عقودا في الاستواء والنضج ومحاولة تطبيقها مباشرة في تربة مغايرة وبعيدا عن عملية ( التمرحل ) اللازمة لإتمامها هي عملية حمقاء وهي مراهقة فكرية لا أكثر ..! تعالوا نقيم التجربة الليبرالية السعودية بعد عقد كامل من الانطلاق بعيد أحداث سبتمبر , والسنوات الذهبية لها من 2007 إلى 2009 .. سوف نجد أن النتيجة هي تشويه للفعل التنويري الحقيقي الذي يفترض أن يحمل رسالة الحقوق والتسامح , ويقدم ما عجزت الصحوة عن تقديمه طيلة ثلاثين سنة من السيطرة المطلقة . وقبل أن آتي على ما قامت به ( الليبرالية السعودية ) من تشويه . أود أن أستدرك في مقدمة حديثي السابقة أن المقصود بعملية التمرحل ليس الإبقاء على حالة التخلف تلك المدة الطويلة التي تقاس بالعقود .. وليس المقصود وأد عملية الإصلاح المنشود أو تأخيره تبريراً لما يسمى بالتدرج المرحلي في نسخته المراوغة والملتفة كما يراها البعض.. فالإسلام حين جاء لم يقم بالتدرج في إعلان كلمة الحق .. وهذه الأولويات لا تتطلب التدرج أو التمرحل !! إنما المقصود هو ما يطرحه العقل الليبرالي من تصورات فلسفية غير مكتملة وغير ناضجة وغير قابلة للتطبيق المباشر في بيئة تتطلب لمثل تلك الأطروحات طبيعة مرحلة وأجيالا متعاقبة وثقافة متطورة وآخذة في النمو التراكمي !! وللتوضيح : قضية الاختلاط في أماكن العمل في الدوائر الحكومية , قضية خلع الحجاب وإحراقه , قضية تعليم الرقص والموسيقى في المدارس .. وقضية حرية انتقاد الدين الإسلامي والرموز الدينية تحت بند حرية التعبير ...إلخ من القضايا التي لا تتعلق من قريب ولا من بعيد بالأولويات الماسة في ثقافتنا.. فكان الأولى بالعقل الليبرالي ممارسة طرحه الأخلاقي حول أهم القضايا ومحورها وهو الإنسان وحقوقه الأساسية .. ثم تأتي بعد ذلك مختلف القضايا الثانوية التي ستكون تبعاً لحالة التطور المفاهيمي للحقوق والممارسات بشكل تلقائي وحسب طبيعة المجتمع المنتج للثقافة !! تلك القضايا التي كان ولا يزال يطرحها الجيل الجديد من مدعي الليبرالية هي التي أجهضت مشروع التنوير الذي قدّم له الرعيل الأول من المثقفين السعوديين ممن لم يكونوا بهذه الجرأة في الطرح الذي ارتفع سقفه أو أنهم لم يكونوا يهتمون بالثمار قبل أن يؤسسوا لزراعة جذور ثابتة وراسخة .. وفي حين أن المجتمع انفتح بشكل تلقائي تبعاً لسنن التطور الطبيعية نجد أن الليبرالية الحديثة قفزت - للأسف - على هذا التطور وسبقت المجتمع بأطروحات تصادم المجتمع في عقيدته وثوابته مما جعل هناك ريبة وتوجساً ساهم في إعاقة حالة التطور تلك وعرقلتها بشكل يمكن القول إنه طعن لمشروع التحديث الذي فرضه الواقع على المجتمع والدولة !!