معارض الكتب لم تعد تمثل مجرد "سوق" لبيع الكتاب ومشتقاته، وإنما تحولت إلى محافل ثقافية جامعة، بما تشهده من حوارات ومنتديات، وأيضًا وهو الأهم أنها أصبحت تمثل الخريطة الأكثر دقة والأصدق تعبيرًا عن الحياة الثقافية في أمة من الأمم، والدلالة الأكثر عمقًا على اتجاهات التفكير لدى إنسان هذه الأمة، والهموم والآفاق التي يتطلع إليها ونحو ذلك، وفي الحالة العربية مازالت معارض الكتب تمثل استطلاع الرأي الأكثر دقة وشفافية في عالم الثقافة العربية، وذلك لأنه استطلاع رأي عفوي غير متكلف، ولا تقوم به جهة بعينها بحيث تتهم في حيادتها أو موضوعية اختياراتها. والذي يقع في النفس ابتداءً أن القارئ العربي أصبح أكثر زهدًا في الكتابات الجديدة، وإن شئنا الدقة نقول بأن القارئ العربي سحب المصداقية من الكتابات الجديدة، إما لأنه لم يعد يجد فيها جديدًا يستحق القراءة، وإما لأنه لم يجد فيها عمق الفكرة وأصالتها بحيث تثري معارفه أو توسع مداركه أو تفتح له آفاقًا جديدة من الفكر، وللأمانة ينبغي أن نعترف - معشر المثقفين – بأن هناك موجة من عدم الاهتمام والادعاء هيمنت على الأجيال الجديدة في عالم الفكر والكتابة، ومن شتى الاتجاهات، ومازالت هذه الموجة سارية حتى الآن، وأصبح انتشار الكاتب أو الكتاب مرجعه إلى "علاقات عامة ناجحة" أكثر من كونه تعبيرًا عن موهبة وفكر ومعارف ورسالة. ولهذا السبب نجد هناك أعلامًا في الفكر والعلم والمعرفة في عالمنا العربي يتم نسيانهم ولا تكاد الأجيال الجديدة تسمع عنهم، رغم أنهم أعلام شوامخ، بينما تسمع الضجيج والاحتفالات بأشباه مثقفين لمجرد أنهم يجيدون فنون الاتصال أو يحسنون لعبة استفزاز الضمير العام في المجتمع من خلال استباحة بعض رموزه، ثم تحريك موجات الغضب تجاه هذا الاستفزاز، ثم تقديم المستفز نفسه كضحية للتعبير، وتطغى جلبة المعركة الموازية لهذه "اللعبة" على أصل المسألة، وهو القيمة الفكرية أو المعرفية لما قدمه، يضيع كل ذلك لأن المقصد لم يكن الفكر والمعرفة، وإنما الشهرة من أرخص أبوابها. وأعرف شخصيًا بعض الكتاب العرب من هذا الطراز، ينشرون مؤلفهم الذي لا يسمع به أحد، ولا يهتم به أحد، ثم يرسلون نسخًا ، فإذا ما تصدى احد الناقدين محذرًا من هذا الكتاب، طار صاحب الكتاب فرحًا ، حيث يبدأ رحلة الابتزاز الإعلامي لكي يحصد الشهرة وينفد كتابه من السوق بعد أن ظل راكدًا أشهرًا طوالاً لا يسمع به أحد، وتبحث في المحصلة كلها فلا تجد فكرًا ولا علمًا ولا قيمة ولا شيئًا، فالشهرة الآن أصبحت – مع الأسف – علاقات عامة وفنون اتصال، وتكتيكًا. ومن لطائف المشاهد في معارض الكتب العربية أنك تتجول في بعض دور النشر التي تباهي بقطيعتها مع التراث فتجد معظم مساحتها مخصصًا لعرض كتب التراث الإسلامي، وذلك لمجرد استجداء "القارئ" لكي يمر على بابهم؛ لأنهم يدركون ويسلمون بأن هذه الكتب هي "المعرفة" الحقيقية التي يثق فيها القارئ العربي ويطمئن إلى أمانتها وجديتها وأصالتها، بينما الغالبية العظمى من الكتب المحدثة لا تجد من يشتري أو من يقرأ. وللأمانة أيضًا فإنني كقارئ أحيانًا لا أستطيع أن أكمل صفحة واحدة من بعض الكتب العربية المنتسبة إلى الحداثة مما يشيع في حياتنا الثقافية مؤخرًا، لا أستطيع أن أهضم عبارة "نص من النصوص المتناصة" على سبيل المثال.