أظهر الإنسان على مدار التاريخ قدرة فائقة على إدراك المحسوس والتمتع به وتقديره، ولا يعادل تلك القدرة سوى ضعفه في إدراك المعنويات والاحتفال بها والسعي من أجلها، ولعل سرّ هذه الوضعية يكمن في أن الحِسّيات تعبر عن نفسها بطريقة أفضل من طريقة المعنويات، أو أن الجزء الحسّي في الإنسان أقوى من الجزء الروحي، وربما عاد ذلك إلى العُرف؛ فالناس لا يرون مباهجنا ومآسينا الداخلية حتى يتخذوا منها موقفاً يضغطون من خلاله علينا، لكنهم يرون بيوتنا وأثاثنا وثيابنا ووظائفنا... وهذا يدعو إلى الأسف؛ لأن من يتمتع بالامتلاء الروحي يشعر بالسعادة، ويُسعد مَن حوله، أما جمال الشكل فهو متعة للآخرين أكثر من أن يكون متعة لصاحبه. ونحن اليوم نلاحظ أن كثرة ما يحيط بنا من أشياء قد صرف أذهان كثيرين منا عن الاهتمام بتزكية سرائرهم وإثراء أرواحهم، مع أن الفقر الحقيقي هو فقر الروح، وقحط المعنى، وقد صدق الذي قال: إن رجلاً لا مال له، هو رجل فقير، وأفقر منه رجل لا يملك سوى المال! إن خواء الروح كثيراً ما يتمثل في ذلك الشعور العميق في الاحتياج الشديد إلى المال والشهرة والنفوذ وتقدير الآخرين والأنس بهم، ومن الطبيعي أن يكون الامتلاء الروحي عبارة عن شعور قوي بالاستغناء الداخلي عن الكثير من هذه الأمور. الأصل هو الخواء وليس الامتلاء، كما أن الأصل في الناس أن يكونوا جهّالاً إلاّ إذا تعلموا، وكما أن ثقافة معظم الناس سطحية، فإن أرواح معظم الناس خاوية؛ لأن الخواء هو الأصل، وهو الشيء السهل، أما الامتلاء الروحي فهو ثمرة جهد ومجاهدة وتبصّر، وهو عنوان لوضعية عامة لشخص من الأشخاص. وإذا أردنا أن نضع الإصبع على الأسباب المباشرة لخواء الأرواح فربما وجدنا الآتي: الغفلة عن الله تعالى وضعف الشعور بمعيّته جل شأنه فالمؤمن بذكره لله تعالى ومناجاته إياه يشعر بأنه كبير وعظيم، ويشعر بالأمن والسلام، والاستغناء عن الناس. لدى المسلمين إجماع على أن الهدف الأسمى الذي ينبغي التفكير فيه والعمل من أجله هو الفوز برضوان الله تعالى والظفر بمكان مرموق في جنات الخلد، لكن معظم الناس لا يستحضرون هذا الهدف في حركتهم اليومية، ولهذا ترى منهم الكثير من المخالفات والكثير من التقصير في الواجبات. إن الشيء حين يكون هدفاً يوجّه السلوك ويستنفر الهمة، ويصبح الاقتراب منه هاجساً مقيماً. سيطرة الشعور بالفراغ؛ إذ إن كثيرين منا يجدون أنفسهم عاجزين عن ملء أوقاتهم بشيء قيِّم ومهم، فما يكون منهم إلاّ أن يملؤوها بالأشياء الضارة أو غير المفيدة، والسبب في الفراغ هو غياب الأهداف والخطط التطويرية، ولطالما كان الشعور بالفراغ مصدراً للشعور بالتفاهة والاستخفاف بالذات! الارتباك في استخدام الإمكانات المتوفرة بسبب ضعف الخبرة الإدارية، وإذا تأملنا في أوضاع المسلمين وجدنا أن كثيرين منهم يملكون ما يكفي من المال والوقت والطاقة والذكاء والمعرفة، لكنهم مع هذا لم يحققوا أي نبوغ أو أي شيء لافت، وما ذلك إلاّ لأنهم يشعرون بالعجز عن إدارة مواردهم الذاتية وتعبئتها بطريقة ملائمة. ضعف النشاط الأدبي والاجتماعي؛ فقد ثبت أن المرء من خلال إسهاماته في الدعوة والإصلاح ومساعدة الآخرين يحقق ذاته، ويشبع شيئاً من حاجاته الروحية، وحين يُحرم من ذلك لسبب من الأسباب يتجه إلى المال والاستهلاك من أجل الشعور بالقوة والقدرة على التمتع، وهذا في الحقيقة يقوِّي شعوره بالخواء، وقد يلجئه إلى أن يسلك مسالك يوبّخ فيها نفسه. إن الذي يترتب على الخواء الروحي شيء مخيف، ولعل أخطر ما فيه هو سهولة الوقوع في الخطأ، والشعور بالضيق، والعزلة، وضعف الصمود في وجه الشدائد... إن الامتلاء الروحي هو عاجل الجزاء لأولئك الذين أدركوا في الوقت المناسب أن كل ما بين أيديهم من علم وقوة ومال، وجمال ونفوذ ووجاهة، عبارة عن وسائل يجب أن تُستخدم في تحقيق الهدف الأسمى؛ وحين تصبح الوسائل غايات فإن ذلك لا يعني سوى شيء واحد: هو فقد الاتجاه وضياع المعنى!