ما صدر إلى الساحة الإسلامية من اتهامات بأن ثقافة المسلمين بطبيعتها ثقافة توجد كراهية وتوجد تحقيرًا من شأن الآخر وتجعل من المسلم ذاتًا ومن غيره موضوعا. هذه كلها إن صح إطلاقها على بعض جوانب الثقافة البشرية التي سادت بين بعض المسلمين نتيجة عوامل انحرافهم وابتعادهم عن مصادر ثقافتهم الأصلية كتاب الله وسنة رسوله وسيرة رسوله عليه الصلاة والسلام وسير الأنبياء من قبله، كل هذه الأمور إنما هي أمور طارئة. أمور لا تأتي من الإسلام ولم تفرزها ثقافة قائمة على أصول الإسلام ولكن أفرزتها ثقافات التراجع، ثقافات الانحراف، ثقافات الصراع، هي التي أوجدت كثيرًا من تلك الأمور، وحين يقول الناس علينا بأن فقهاءكم يصنفون الأرض إلى دار حرب ودار إسلام، ويفسرون دار الحرب كما يشاءون وأنكم تقولون بأن هناك فسطاط لأهل الإيمان وفسطاط لأهل الكفر إلى غير ذلك من أمور، وأن القرآن يصنف الناس إلى مشركين وكفار، وأهل كتاب كفار، ويأمر بمقاتلتهم. (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29). هؤلاء حينما يأخذون هذه الآيات خارج إطارها وخارج سياقها وسباقها، ويقطعونها عن بيئتها، فإن هؤلاء القوم يسيئون الفهم ويسيئون الإدراك، إدراك مرامي القرآن، وإدراك العلاقات بين هذه الآيات ويتجاهلون تاريخًا بأكمله، ويتجاهلون سبلاً ووسائل ومواقف لها شأنها لو أنهم اطلعوا عليها، أو أخذوا هذه الأمور في إطارها وفي سياقها لما استطاعوا أن يذهبوا إلى ذلك الفهم المعوج والفهم الخاطئ البعيد عن روح الإسلام وروح القرآن وتوجيهه، والبعيد عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. أما تصنيفات دار الحرب ودار الإسلام ودار العهد التي بدأها بعض الفقهاء، فهي تصنيفات كانت قائمة على واقع يعيشونه. فكان الناس في مواقفهم من الدولة الإسلامية يمكن تقسيمهم إلى تلك الأقسام. فهناك وحتى يومنا هذا بلدان تعتبر أمريكا أو دول المجموعة الأوروبية أو إسرائيل أو الدول العربية أن العلاقة بينها وبين تلك الدول يمكن تسميتها بعلاقة حرب أو معاهدة أو سلام أو ما يصنف ذلك. فالتصنيف الواقعي شيء والتصنيف المبني على الأصول شيء آخر ولذلك فرض كثير من العلماء حتى في تلك العصور المبكرة عن هذه التسمية، واقترحوا أن تستبدل بدلاً من دار الحرب ودار الإسلام أن يقال دار الإجابة ودار الدعوة، باعتبار أن الله تبارك وتعالى قد قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24). وهؤلاء الذين استجابوا لله وللرسول تكون ديارهم ديار إجابة. والأمة منهم أمة إجابة. وأولئك الذين أبوا ورفضوا تكون ديارهم ديار دعوة وليست ديار حرب. ذلك يعني أنها في حاجة إلى مزيد من الجهد لتعريفها بالإسلام ودعوتها إليه وبيان مزاياه لها، فهي دار دعوة، فهناك دار إجابة وهناك دار دعوة، وهناك أمة إجابة وهناك أمة دعوة.وبالتالي فالفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية: فقه أمة واسعة مترامية الأطراف وحضارة عاشت قرونًا عديدة تداخلت مع حضارات العالم القديم وثقافاته، وأثّرت في حضارات وثقافات العالم الجديد آثارًا لا يمكن إنكارها، ولا يمكن تجاوزها، فمحاولة أخذ بعض الجوانب بشكل انتقائي لمهاجمة هذه الأمة ولتصويرها بغير صورتها الحقيقية أو الأصلية؛ أمر لا ينبغي لعادل مع نفسه أو منصف للبشرية أن يمارسه، فإن في ذلك كثيرًا من الغش والكذب والمبالغة.