منطق التغيير فرض نفسه في النهاية، ولو بفارق أقل من نقطتين بين الرئيس المنتخب فرانسوا هولاند والرئيس الخارج من الإليزيه نيكولا ساركوزي. هذه ديمقراطية تعمل حتى لو أظهرت أن فرنسا مشطورة إلى قسمين شبه متساويين. كانت الحصيلة مشابهة جداً لتلك التي حققها فرانسوا ميتران عام 1981 ضد منافسه فاليري جيسكاردستان. بعد واحد وثلاثين عاماً انتقل الحكم من اليمين إلى اليسار، فهذا يعني أن اليمين هو الذي أسقط مرشحه. فلا يمين الوسط ولا أقصى اليمين تخليا عن استيائهما من أجل نصرة ساركوزي، رغم دفاعه عما يعتبره قيماً مشتركة معهما. عندما انتخب ساركوزي عام 2007 بعد مسيرة شخصية طويلة للوصول إلى الرئاسة، كان قوياً إلى حدٍ أعطى انطباعاً بأنه باقٍ بالتأكيد لولايةٍ ثانية. وخلال خمسة أعوام، لم يظهر في صفوف اليمين مَن يمكن أن ينافسه. لكن الأزمة الاقتصادية وما استدعته من إجراءات تقشفية، ألحقته بجميع الذين أطاحتهم في إسبانيا وإيطاليا واليونان. وسيكون على هولاند منذ اليوم أن يواجه تداعيات هذه الأزمة وتحدياتها من دون أن يفسد العلاقة مع ألمانيا، وبالتالي من دون أن يزعزع العمل داخل الاتحاد الأوروبي أو يزيد جدران منطقة اليورو تصدعاً، خصوصاً أنه طرح تعهداتٍ مثل التفاوض حول ميثاق الموازنة الأوروبي وفرض الضرائب على أثرى الأثرياء، وفي الوقت نفسه إيجاد فرص عمل لخفض البطالة. وكلها وعود أكسبته أصواتاً، قد يخيب آمالها إذا لم يتمكن من الوفاء بها في سنته الرئاسية الأولى. أما الاختبار الدولي للرئيس الجديد فلن يتأخر، لأنه بعد أسبوعين سيتعرف في كامب دايفد ثم في شيكاغو إلى أي مدى يرحّب الشركاء باقتراحيه الانسحاب من أفغانستان بنهاية هذه السنة، وكذلك بمراجعة شروط انضمام فرنسا إلى حلف الأطلسي. فقد يلقى استجابة، إلا أنه قد يجازف بتضئيل الدور العالمي لفرنسا وبالتالي تراجع سياستها الخارجية. من الملاحظ أن موضوع السياسة الفرنسية الخارجية كان الغائب الدائم عن الجدل الانتخابي منذ عام وحتى الآن. لكن من المعلوم أن الدول ذات المؤسسات الكبرى مثل فرنسا عادة ما تستمر في سياستها الخارجية حتى ولو تغيرت سياستها الداخلية، حيث تلعب مؤسساتها الدور الأهم في مراكز القرار في السياسة الخارجية لهذه الدول. في الخارجية الفرنسية مثلاً، عندما يتغير الرئيس لا يتغير بالضرورة المسؤولون عن الأقسام في هذه السياسة. بالنسبة للرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي، منذ خمس سنوات وحتى الآن أراد أن يعطي لسياسته الخارجية العربية بعداً شخصياً. هناك موضوعان أساسيان مهمان في السياسة الخارجية الفرنسية: النفط وإيران. في مسألة النفط، سيبقى ركناً أساسياً من الطاقة التي ترتكز عليها فرنسا باعتبار أنها لا تمتلك إلا كميات ضئيلة للغاية منه، خاصة أن الرئيس الجديد يريد أن يخفض الاعتماد على النووي في إنتاج الطاقة باستخدام الطاقات البديلة، وبالطبع النفط ليس منها. فرنسا تنتج حالياً 73 بالمئة من طاقتها الكهربائية من النووي. في الموضوع الإيراني، لا يُتوقع أبداً أن يتبع الرئيس الفرنسي الجديد سياسة تختلف في العمق عن سياسة التشدد التي اتبعت حتى الآن حيال إيران. وفي الموضوع السوري، جاء تصريح الرئيس فرانسوا هولاند واضحاً لجهة نوعية السياسة التي سيتبعها، حيث قال أنه في حال أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بالتدخل العسكري في سوريا، فإنه كرئيس للجمهورية سيشارك في هذا التدخل. وهذا يعني بالطبع أن فرانسوا هولاند ليس بالنعامة التي يمكن أن نتصورها وليس مناضلاً في الموضوع السلمي، بل هو رجل دولة ويريد أن يتحمل مسؤولياته، ويريد أن تبقى فرنسا طرفاً فاعلاً في هذه المنطقة من العالم. أما بالنسبة للبنان، لم يتطرق الرئيس الفرنسي المنتخب إلى سياسته الخارجية في هذا البلد لا في برنامجه الانتخابي ولا في خطبه السياسية. لكن لبنان بالنسبة لفرنسا له وضع خاص، تتغير العهود ولا تتغير السياسة الفرنسية تجاهه بسبب العلاقات التاريخية التي تعود إلى مئات السنين بين البلدين، وإلى تعلق فرنسا بالتعددية الثقافية والدينية في لبنان. وهنا تجدر الإشارة إلى الحضور اللبناني الكثيف في فرنسا، فاللبنانيون الفرنسيون صوّتوا بنسبة كبيرة لصالح الرئيس المنتهية ولايته. لكن هذا لن يغير في الأمور شيئاً باعتبار أن لبنان هو إحدى ركائز السياسة الفرنسية الخارجية الثقافية والدبلوماسية.