إذا كانت "العالمية" تعني التنافس في فضاء رحب من الإنتاج الفكري والوجداني دون ضغط ولا إكراه ويفوز فيه ما له قيمة ذاتية من داخله دون فرض خارجي.فإن "العولمة" هي نشر أفكار ومباديء ومواقف واتجاهات نفسية وأنماط سلوك ومحاولة فرضها بطرائق شتى منها الإقناع والترغيب والإلحاح عليها وتكرارها حتى تلين لها النفوس وتألفها وينتفي نتيجةَ ذلك استنكارُها وتضعف مقاومتها أوتزول. بعد بيان معنى هذين المصطلحين يجدر بنا أن نفرق بين العنصرين اللذين اختلطا في العولمة فظهرا كأنهما من صميمها وهما "الحضارة" و"الثقافة". أما "الحضارة" فتشمل جميع عناصر الجانب المادي من الحياة مما نحتاج اليه ونستعمله في السلم والحرب وهي التقدم العلمي والتكنولوجي وما نتج عنهما من مبتكرات ومخترعات وانجازات ومن ثورة المعلومات. أما "الثقافة" فتشمل الجانب المعنوي من الحياة وهي العقائد الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وما يترتب عليها من أنظمة وتعاليم وقيم ومباديء ومثل تنظم أنماط حياة الناس و سلوكهم وما لهم من لغة وأدب وفن وفكر. ومن منظار آخر للثقافة معنيان: معنى خاص و معنى عام أو معنى ابداعي ومعنى سلوكي. أما المعنى الخاص أو الابداعي فيتمثل في العقيدة الدينية للأمة ولغتها القومية ومجموع نتاجها الفكري والأدبي والفني. أما المعنى العام او السلوكي فيتمثل - بالإضافة الى ما تقدم – في القيم والعادات والتقاليد وأنماط الحياة واساليب التعامل. ومما ينبغي اليه الإشارة هو أن كل "حضارة " كانت قد قامت على " ثقافة " هي التي أنشأتها ثم لاتلبث بعد ذلك أن تنشيء ثقافة " حضارية " خاصة بها. وفي العولمة الحضاريه المادية يحرص الفريق المالك على أن يغرق الفريق الآخر بصادراته وأن يجعله مستوردا مستهلكا غير قادر على أن يكون منتجا، لأنه لايملك من وسائل البحث العلمي وأسرار الصناعة والتقدم والتكنولوجي وما يؤهله لذلك. أما العولمة الثقافية هي أصل للعولمات الأخرى: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية وسواها وذلك لأنها هي التي تمهد العقول والنفوس لقبول انواع العولمة الأخرى. والعولمة الثقافية تعني سيادة ثقافة واحدة بلغتها وفكرها وأنماط حياتها وسلوكها، وتعني نشر مضمون تلك الثقافة ومحتواها من: أساليب التفكير، والتعبير، والتذوق الفني، وأنماط السلوك والتعامل، والنظرة الى الحياة والكون، وبذلك تدمر الخصوصيات الثقافية الأخرى.والشيء الذي لايجوز عولمته هو الثقافة؛ لأن الثقافة ليست هي العلم، بل هي ما يعبرعن خصوصية كل أمة، في عقائدها، وفي شرائعها، وفي قيمها، وفي نظرتها الى الكون والحياة والإنسان، وإلى الدين والدنيا، وإلى الفرد والمجتمع. ولكن ماهو المسوغ الممكن والشرعي لتمييز العولمة الثقافية عن العولمة "الاقتصادية" والسياسية و... وماذا يميز الثروات الثقافية عن الثروات الاقتصادية؟ للإجابة عن هذا السؤال نقول: إن الأمر يتعلق أولا بثروات "لامادية" ، هذا مايمكن تقريبه مع ما يسميه الاقتصاديون ب"الخدمات". إنها أداء مشترك يقوم به شركاء اجتماعيون، يقومون هنا بمبادلات استدلالية شفهية أو مكتوبة. تأخذ الرموز الثقافية التي تنتشر في العالم – الخطابات الدينية، العلمية، الإيديولوجية والأدبية إلخ – شكل التبادل الكلامي، تجاه، أو عبر ما توفره وسائل الإعلام. ثم إن الثروات الثقافية تقوم بتوصيل نمط معين من "الخدمات" كما أنها تدخل نمطا خاصا من "الاستهلاك" . إن الخدمة المشار إليها في حالة الثروات الثقافية ليست في نهاية الأمر سوى إعداد الحقيقة (إنتاجا وانتشارا). ومن خلال الحقيقة، الخلاص. وحين يتسلم الفرد الرسالة وحين يدرك الحقيقة التي تنطوي عليها، فإنه سيتحول إلى "القناعة": لقد صار بوسعه الوصول إلى صوت الحقيقة؛ لقد سمع الصوت، لقد نال الخلاص، أو ربما وصل إلى الخلاص. وبعد ذلك ستكون رغبة الأثيرة، وستكون إرادته الأكثر إلحاحا، أن يتمكن بدوره من نقل الرسالة إلى الذين يحيطونه أو إلى البعيدين عنه الذين لم يسعفهم الحظ بالتمتع بامتياز الاستمتاع لهذا الصوت، أو اكتشاف هذا الصوت. يشكل التبشير المتحمس والوعظ ذو الطابع الشمولي جزءا مكملا لانتشار الرسالات الثقافية الكبرى. ولاشك أن للعولمة تحديات و وسائل تساعد على فرض هيمنتها على العالم سيما عالمنا الأسلامي و ما فيه من الثقافة واللغة ومن أهم هذه التحديات والوسائل هي: 1- إشاعة مصطلحات جديدة ذات مفاهيم ومضامين تحل محل المفاهيم والمضامين الأصلية التي تتصل بحياة الأمة وشخصيتها وحقيقة وجودها. 2- نشر أنظمة الفكر والتعليم ومصطلحاتها، وتعميم أنموذج المؤسسات التعليمية الغربية وانقلاب الجامعات من نظام إلى نظام آخر. 3- الاتفاقيات والمعاهدات الدولية كوثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيرها والتي تهدر حق الشعوب في أن تعيش وفق ثقافتها وعقيدتها. 4- الافلام والمسلسلات المتلفزة والأغاني الأجنبية التي تطالعنا في كل مكان وهي محمّلة بأنماط الحياة وأساليب التفكير والسلوك الغربية وخاصة أمريكية. فهذه الوسائل والتحديات تعتبر أدات غزو نفسي وليست غزوا ثقافيا لأن الثقافة لاتُغزى غزوا مباشرا تتأثر به في ذاتها وإنما تُغزى نفوس اصحاب الثقافة بما يبُثّ فيها. هذه العولمة لاتختص بأمة دون أخرى ولا بعالم دون آخر و لذلك نجد أن كثيرا من البلدان المتنامية من أمثال فرنسا و اليونان تشتكي من هيمنة العولمة على بلادها وهذا أمر لاحيلة له. إذن، نرى أن العولمة حقيقة واقعة، و أخذت تكتسحنا من جوانب حياتنا المختلفة ولانستطيع أن ننكر مدى تأثيرها على شبابنا وشيوخنا ورجالنا ونسائنا وأطفالنا وعلى كل ذي عقل أن يقف في وجه هذه الظاهرة بقدرما يستطيع وعلينا كلنا أن نعود إلى ماضينا وعصورنا الذهبية التي كانت امتلأت بلادنا الاسلامية من مظاهر العلم والفكر واللغة والفن وحينئذ سنكون قادرين على التفاعل والتواصل مع الثقافات الحية العالمية ثم على التعامل مع العولمة. .