من علامات المجتمعات البدائية الذاكرة القصيرة,فلا تكاد تنتهي الكارثة التي حلت بها حتى تنساها وتغفل عن معالجة أسبابها ودواعي تخلّقها,ولذلك تستمر هذه المجتمعات في تكرار أخطائها دون أن تنتبه إلى الحقيقة الأزلية التي تؤكد أنّ تكرار نفس المقدمات سيأخذنا –حتماً- إلى النتيجة ذاتها دائماً وأبداً,ولا يستطيع الفرد الطبيعي أن يخفي دهشته من حالنا في السعودية فالحقيقة التي لا تقبل الجدل ولا التأويل أنّ العدو الحقيقي لهذا الوطن منذ تأسيسه هو التطرف والتشدد الذي يتخذ من الدين جلباباً له ليخدع به البسطاء وليتقي به السؤال والمحاسبة ثم ليتخذ سوء الفهم له عذراً يعفي أتباعه من مغبة الحساب ومقتضيات العدالة, حدث ذلك في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله مع من كانوا يدعون أنفسهم إخوان من أطاع الله وتفاصيل هذه الحادثة معروفة ولا تحتاج للذكر والتفصيل, ثم حدث ذلك مع جهيمان وأعوانه في حادثة الحرم المكي المعروفة ثم حدث في موجة العنف في منتصف التسعينيات قبل أن تحدث أكبر الأحداث الإرهابية في مايو الأسود والفترة التالية له,كل هذه الأحداث التي كان العدو فيها واحداً في المنطلقات والدوافع والأساليب لم تقنع هذا المجتمع ونخبه السياسية والفكرية بماهية العدو الحقيقي ووجوب مواجهته,فما كان يحدث بعد كل مواجهةٍ مع هذا الفكر هو السماح للنخب الفكرية والوطنية بنقد هذا الخطاب المتوحش وبذل المحاولات لتفكيكه, في حين يخلد أصحاب هذا الفكر إلى السكوت والانزواء المؤقت أو الظهور باللون الرمادي الذي لا يقول شيئاً ولا يحدد وجهة,وفي أثناء ذلك يقوم هذا الخطاب المتطرف بوسم الخطاب الوطني المضاد له بصفةٍ يخترعها في كل مناسبة حيث كانت في البدء الشيوعية ثم الحداثة ثم العلمانية ثم الليبرالية في الوقت الحاضر,وفي الوقت الذي ينشغل الخطاب الوطني بمواجهة خطابات التشدد وبعض وقائع الفساد والفقر والتخلف ينشغل الخطاب المتطرف بنفخ الروح في الصفة التي ألبسها الخطاب الوطني ثم يستنفر دعاته في تشويه هذه الصفة وحشوها بالمساوئ والنقائص وتحذير الناس منها ومن مخالفتها للدين وأنّها تنقض الدين عروةً عروة كما قال أحد منظريهم في وصف الليبرالية!! وحينما يكتمل خلق هذه الصفة القبيحة في أذهان الناس ويتم التأكد من أنّ الذهنية المجتمعية أصبحت في حالةٍ من التجييش والكراهية لهذه الصفة يتم في ذلك الوقت خلعها على أصحاب الخطاب الوطني المعتدل والصادق لضرب صورتهم في أذهان الناس في محاولة نزع التأثير الذي أحدثوه في قلوب الناس وفي وعي المجتمع, لنصل إلى المرحلة النهائية التي يقوم فيها أصحاب هذا الخطاب المتطرف بالظهور بمظهر المظلوم المغلوب على أمره الذي لا يملك سوى رفع دعاوى الاحتساب على الخلق في محاولةٍ منه لنصر الدين والذب عنه!!هذا هو السيناريو الذي يتكرر منذ سنواتٍ طويلة وللأسف الشديد فلا يزال المجتمع والنخب السياسية والفكرية تنخدع بهذا الوهم المتكرر في كل مرة,ولا يمكن أن نلوم النخب الفكرية من الوطنيين الصادقين حينما يفقدون الرغبة في النقد والتفكيك في حال عودة هذا الخطاب للتعبير عن نفسه بالشكل العنيف المعتاد والمتوقع,فهذه النخب الصادقة تشعر أنّها تُستدعى فقط حينما تشعر بعض النخب السياسية بخطر هذا الفكر قبل أن يعاد ركنها على الرف المهجور في حين يحصل تلاميذ الفكر المتشدد على الحظوة والقرب. وسيلاحظ المتأمل العلاقة الطردية بين تشدد التيار المتطرف وبين هجومه على العدو الذي يخلقه في خيالاته ويسوّقه للناس,فكلما زاد هذا الفكر المتوحش في معارضته للتنمية بوجهها البشري ومعارضته لمختلف الأنشطة والفعاليات زاد هجومه على أصحاب الفكر المختلف معهم وزاد الضيق بهم والتبرم منهم وزادت محاولات الاستعداء الرخيصة على هؤلاء الوطنيين الصادقين في مختلف المجالات,ومن المؤسف أنّ هذه المحاولات كانت تنجح في مراتٍ كثيرة فيتم التضييق على المخلصين الصادقين ونبذهم بل وحرمانهم في كثيرٍ من الحالات من أبسط حقوقهم,ولذلك قد يبدو من المنطقي هنا أن نستغرب الهجمة الشرسة التي تتم في هذه المرحلة على مايسمى بالليبرالية وأصحابها فبغض النظر عن مدى حقيقة وجود هذه الليبرالية لدينا في السعودية إلاّ أنّ الحقيقة التي لا يمكن نكرانها يمكن تلخيصها فيما يلي: لم يسبق لمن تم نعتهم بالحداثيين أو العلمانيين أو الليبراليين أن حملوا حزاماً ناسفاً أو قاموا بعملية إرهابية أو قاموا بتكفير أحدٍ أو المطالبة بدمه أو التهديد بقتله أو الدعاء عليه بالشلل والمسخ, ولم يسبق لهم أن حملوا سلاحاً في وجه مؤسسات الدولة ولم يسبق لهم المزايدة على الدولة وعلى نياتها وتوجهاتها,لا يمكن لأحدٍ نكران ذلك أو المزايدة عليه ومن كان يحمل قلماً فعلى الجميع أن يرفض مواجهته مالم يكن السلاح هو القلم فقط,وربما كان من الواجب قبل أن ننصب المشانق أن نفتح أعيننا وعقولنا وقلوبنا لنعرف ما هو الفكر الذي يجب تعليقه فيها. [email protected]