تعلمنا منذ الصغر وفي بلادنا فلسطين بأن الآبار هي مستودع الأسرار، فعندما يريد أحدٌ أن يبوح لصديقه بسر يحتفظ به يسأله هذا السؤال: وين السر؟ فيجيب عليه الصديق بقوله "في البير" أي أن ما ستبوح به من سر سيكون في البئر. فبعد ذلك يبوح إليه بالسر. وكأنه قسم واجب على المتلقي للسر قبل أن يتلقاه. وبئر أسرار الإنسان يختلف عن بئر أسرار الأرض، بئر الإنسان لا يكتم السر بمقدار ما يكتمه بئر الأرض، ولا يحتفظ به طويلاً كما يحتفظ به. والإنسان بطبعه وفطرته الغريزية لا يقدر على الإحتفاظ طويلاً بالأسرار مقابل المغريات المادية والمعنوية، فيبوح بها بدوافع سلبية أحياناً ودوافع ايجابية أحياناً أخرى. الدوافع السلبية وذلك بتقديم جزرة المغريات الدنيوية الغريزية، فيقع في فخ الخيانة للوطن والمواطنين والعمالة للأعداء المعتدين، فيغرق بالجريمة ويغرق الناس بها مختاراً لهذا الطريق بمقود الغرائز لا مكرهاً عليه. وبذلك يصنف تحت أعلى درجات الجريمة عنفاً وبشاعة، كذلك يبوح بالسر بدوافع الخوف من التهديد بالعذاب . ويبوح الإنسان بالسر بدوافع ايجابية، انطلاقاً من عاطفة الحب لله وللناس وللوطن، وذلك لإنقاذ الناس من الجرائم وأفعال المجرمين كما أمره الله، وذلك بهدف الوقاية منها قبل حدوثها واستفحالها بالمجتمع. وبدوافع الحفاظ على الأمن الوطني وأمن المواطنين وإشاعة السلم والتعايش بين الناس. كتمان الأسرار من الصفات الحميدة، وهي أمانة في عنق المتلقي لها، ولكن ليس كل الأسرار أمانات واجبة الكتمان، وبالأخص أسرار آبار الأرض، ومعظم أسرار تلك الآبار هي أسرار واجبة البوح لاتقاء نتائجها الكارثية على الناس، لأنها في مجملها تنطوي على جرائم في حق الإنسانية. إذ تحوّل قلب الإنسان الذي أودع السر في خزينة بئر الأرض الى حجارة صماء كحجارة البئر، جامدة وخالية من المشاعر والعواطف والأحاسيس، ومجردة من الحب لله وللناس، وذلك في سبيل حب الحياة الدنيا ومغرياتها. ونتيجة لسيطرة الأنانية المطلقة على تفكيره، والتي تبيح له وتسول لنفسه الحاق الضرر والأذى بالناس في سبيل سلامته هو وحده. فيقدم على الجريمة والقتل من أجل أن يعيش هو ويهلك باقي البشر، وتلك من صفات اليهود المتصهينين الذين يشيعون القتل والدمار في سبيل استمتاعهم بالحياة لوحدهم دون مشاركة مع باقي البشرية. ويعتبرون دم الآخر مباحاً لهم. فيسفكون الدماء بقلوب تخلو من نبض الحياة وينابيع الرحمة والرفق والحب. من هنا كان الناس في بلادنا يصفون من يتسم باللؤم وكره البشر وقساوة القلب باليهودي، ويقصدون اليهودي المتصهين الذي اغتصب فلسطين منهم بالقتل والتشريد والدمار لآثارهم على تلك الأرض. وللآبار في فلسطين قصة قديمة وموغلة في القدم ، وكلها كانت مستودعاً أميناً للأسرار الاّ بئر واحد شذ عن القاعدة، ورفض الجريمة، وباح بسر عتيد وذلك بإرادة من الله عز وجل، إنه غيابة الجب "البئر" الذي ألقي فيه سيدنا يوسف عليه السلام. فباح بسره للسيّارة (العابرين من أهل مصر) فالتقطوه من البئر، ليكون النبي الذي قلب موازين الحياة في مصر، ووهبه الله العلم والحكم، فأشاع العدل بين الناس وأضفى رخاءً على اقتصاد الأمة التي عاش بين ظهرانيها، ولحق به كل أهله، وكان مثالاً للثبات على الدين والحق، ورفض الانحناء أمام المغريات الدنيوية، وذلك بإرادته القوية، وإيمانه الراسخ بالله.