مابين الفرح بالميزانية الأكبر في تاريخ السعودية ومابين الأسئلة الكبرى التي طرحتها, ظلت أحلام المواطن ترفرف بين ضفتي نتيجة هذه الميزانية لدى الناس,فحين النظر في الأرقام والمخصصات التي استحوذت عليها القطاعات الرئيسية التي تمس المواطن كالصحة والتعليم والاسكان ومشاريع البنى التحتية فليس من التفاؤل والفرح بد,فهذه الأرقام الضخمة لن تجعل الغد أقلّ مما يحلم به المواطن ولن تسمح بالتأخير والتعثر والتسويف والأعذار,ورغم ضبابية بيان الميزانية وعدم وجود ملاحق تفصيلية له تبين حجم المنجز في الميزانية الماضية وحجم التعثر-إذا وجد وأسبابه- إلاّ أنّ ضخامة الأرقام والمخصصات جعلت من هذا البيان خبراً مفرحاً يؤكد عزم الدولة على مواصلة المشروع التنموي والإصلاحي وعدم تأثير الأزمة المالية في منطقة اليورو على خطط البناء والتحديث السعودية,هذا فيما يتعلق بالجانب الكمّي للميزانية والذي نرجو أن تكون ضخامة النتائج قريبةً منه. أمّا مايتعلق بالجانب الكيفي والذي يتمثل في طريقة إدارة المخصصات التي منحتها الدولة للجهات التنفيذية والخدمية ومدى الاستفادة منها وجعلها سبباً لتحقيق النتائج المتوقعة من هذه المبالغ الضخمة,فهذا هو مايثير الكثير من الأسئلة والكثير من القلق الذي له مايبرره,فهذه الأموال ليست ملكاً لنا وحدنا بل هي ملكٌ للأجيال القادمة لأنّها قادمة في أغلبها من الموارد الطبيعية الناضبة وليست من اقتصاد التكنولوجيا أو الاقتصاد المصنوع,وهذا مايجب أن يزيد من الحرص عليها سواءً في مرحلة الجمع أو مرحلة الإنفاق والتوزيع,وفي رأي كثيرٍ من خبراء الاقتصاد في العالم أنّ ميزانية الدول الحديثة لم تعد كما كانت في العصور السابقة حيث كانت سابقاً تمر بمرحلتين فقط وهما التحصيل والتوزيع ودون الخوض في تفاصيل ذلك فمن الواضح أنّه لا يمكن تطبيق هذه الطريقة في التعامل مع ميزانية الدولة الحديثة نظراً لكثرة التشعبات والتعقيدات التي أنتجتها الاقتصادية الكونية الحديثة,وأكثر مايؤكد عليه الخبراء في هذا المجال هو ضرورة توفر الجانب الإبداعي في التعامل مع الموارد المتوفرة للحصول على المال منها دون إنهاكها أو استنفادها ثم الإبداع الخلاق في اختيار أوجه الصرف ومحاولة خلق قنواتٍ جديدة لتشكيل روافد مالية اضافية في المحصلة النهائية وهذا هو مايخلق الفرق بين الدول ذات الموارد المتشابهة والمتماثلة,فلم يعد الاقتصاد الرعوي بشكله البدائي ممكناً ولا قابلاً للنجاح في هذا العصر ولم تعد الموارد الطبيعية مهما بلغت ضخامتها قادرةً على خلق الاقتصاد الناجح والخلاّق, وقد تنبهت كثيرٌ من الدول إلى هذه النقطة المهمة فتعاملت مع مواردها بشكلٍ رفيق كما حرصت على أن تخلق من أموال هذه الموارد موارد حديثة تعتمد على الإنسان وقدراته الإبداعية وليس على الطبيعة التي لا نملك سلطاناً عليها. وقد كنت أتحدث بعد صدور الميزانية مع أحد الاقتصاديين من خارج السعودية وكان مندهشاً ومعجباً بضخامة مخصصات التعليم والصحة وقال لي: إنّ الدولة التي تقتطع هذه المبالغ وتخصصها للتعليم والصحة ستكون من دول العالم الأول بلا شك. ولكنه أكمل حديثه متسائلاً:هل هناك من يراقب ويتأكد أنّ هذه المبالغ ستصرف في هذين القطاعين؟ وأنّ الإنجاز سيكون نوعياً؟ فأخبرته أنّ لدينا ديوان الرقابة العامة وهيئة مكافحة الفساد. وقد تفاجأت حينما أخبرني بأنّه لا يعرفهما ولم يسمع بهما فقلت له تستطيع أن ترى أثرهم الكبير في كل مكان في الوطن. والحقيقة التي يتحدث عنها الجميع في السعودية هي أنّ الدولة لم تقصر إطلاقاً في الإنفاق على جميع القطاعات الحيوية بشكلٍ قد يفوق أغلب دول العالم,هذا هو الجزء الأول من الحقيقة,أمّا الجزء الثاني فكثيرٌ من المواطنين لديهم قناعةٌ كاملة أنّ كثيراً من الوزارات والقطاعات الخدمية لم تنجح في تحويل هذا الإنفاق الضخم إلى منجزاتٍ تمس حياة المواطن السعودي الذي يعتبر هدف التنمية والإنفاق. ومما يردده كثيرٌ من المواطنين أنّ السنوات الماضية شهدت فوائض مالية ضخمة ومخصصاتٍ ضخمة ولكن في مقابل ذلك قلّ عدد المواطنين الذين يملكون مسكناً,وقلّ عدد المواطنين الذين يشعرون بالرضا عن الخدمات الصحية,وقلّ أو انقرض عدد المواطنين الذين لا تتحكم البنوك في رواتبهم وتصادر أيامهم عن طريق القروض,وزاد عدد العاطلين عن العمل,وزادت تكلفة المعيشة بشكلٍ فاحش,وزادت الأحلام المؤجلة,وسنلاحظ هنا أنّ القلة تتعلق بما يصل للمواطن والكثرة تتعلق بما يؤخذ منه. وهذا العجز من بعض الجهات الخدمية الحكومية عن ترجمة المخصصات الكريمة والسخية من الدولة إلى منجزٍ يرتقي بحياة المواطن هو أهم أسباب قلق الناس من ضخامة الميزانية,ولهذا الفشل سببان أحدهما هو نقص الكفاءات والأنظمة في هذه الجهات والوزارات أمّا الآخر فهو ضعف الرقابة والمتابعة والمحاسبة مما يسبب هدراً وفساداً لا يمكن إنكاره أو التقليل منه. وفي ركام هذه الأرقام الضخمة والباعثة على التفاؤل لابد من تذكر مفردة الإدارة,هذه المفردة التي تشتمل على جميع أسس النجاح والتقدم,ولا تقتصر الإدارة على وضع الخطط ابتداءً فقط وإنما تتجاوز ذلك لتشمل التأكد من التنفيذ وجودته كما تمتد لتصل إلى المحاسبة والتحقق من إزالة أسباب الفشل في حال وجودها, وقد كرر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله مخاطبة وزرائه بسرعة التنفيذ وقال : لا عذر لكم. [email protected]