مع اتساع نطاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا، وترافق ذلك مع اتساع حجم القمع الأمني والعسكري من جانب النظام الحاكم بشكل قد يتعارض مع أي إصلاحات مطروحة للنقاش، يبدو المشهد السوري مرشحا إلي مزيد من التصعيد السياسي والميداني على حد سواء. ومع هذا، فلا يمكن التنبؤ بدقة بمجري الأحداث في سوريا خلال الشهور القادمة، نظرا لتعقد المشهد الداخلي، وامتلاء المشهد الإقليمي بعدد كبير من الفاعلين الذين تتباين غايات كثير منهم فيما يتعلق بتطور الأحداث. ويمثل فهم بنية النظام السوري وآلياته المدخل الأول الضروري لفهم مسار الأحداث والاحتمالات التي يمكن أن تنتهي إليها. ويتميز النظام السوري بأنه نظام قمعي ومؤدلج يقوم على أساس إداري هرمي، يأتمر بأمر الرئيس فحسب، ويتكون من أضلاع ثلاثة هي الجهاز الحكومي، والجهاز الأمني والعسكري، وحزب البعث. ويعتمد النظام بالأساس على الطائفة العلوية التي لا تشكل أكثر من 10% من حجم السكان، والتي صدرها الرئيس الراحل حافظ الأسد بشكل أساسي في تدعيم أركان نظامه، واستمر ابنه بشار جزئيا في هذا النهج. من ناحية أخرى، يقوم النظام في شقه الاقتصادي على تحالف ضيق بين طبقة احتكارية تتمركز حول أسرة الرئيس. أما الشق العسكري، فيقوم بالأساس على نظام أمني معقد ومتعدد الأذرع، تتمثل في أجهزة أمنية لا تتبع وزارات بعينها بقدر ما تتبع رئيسها، وتتحدد درجة فعاليتها وقوتها بمدى قرب رئيسها، من رئيس الجمهورية. ففي عهد الأسد الابن، أصبحت نقطة الارتكاز في أجهزة أمنية شديدة الولاء للرئيس، معظم رؤسائها من الطائفة العلوية إلا فيما ندر، وتأتمر جميعها بأمر الرئيس، وتقع تحت الرقابة الوثيقة لشقيقه ماهر الذي يقود قوات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة من القوات الخاصة. أما على المستوى السياسي، فقد توحدت المعارضة السورية للمرة الأولى في تاريخها تحت مظلة إعلان دمشق في أكتوبر 2005 . وتتوزع قوى إعلان دمشق بين معارضين في الخارج هم بالأساس من الإخوان المسلمين، نظرا لتعذر نشاطهم الداخلي بشكل كامل لوجود قانون يقضي بإعدام أي منتم للإخوان المسلمين، ومعارضين في الداخل يلاقون تضييقا أمنيا شديدا واعتقالات متكررة، ويتمثلون في 12 حزبا كرديا وعدد من الأحزاب اليسارية، فضلا عن القوي الليبرالية التي شاركت في معظمها فيما عرف بمنتديات الإصلاح في فترة ربيع دمشق خلال عام .2001 وأسفرت الاحتجاجات الشعبية عن ظهور معارضة جديدة من شباب المتظاهرين، الذين شكلوا "تنسيقيات" في مختلف المناطق، اتحدت فيما بينها فيما يسمي "اتحاد تنسيقيات" الثورة. وكان لهذا الاتحاد وجود لافت للانتباه في مؤتمر المعارضة السورية في أنطاليا بتركيا في مايو 2011 . وهو ما عبر عن تغير نوعي في شكل القوي السياسية السورية، إذ تكونت هذه التجمعات على أساس التوزيع الجغرافي، مع تجاهل شبه تام للانتماءات الطائفية والأيديولوجية. ومع ذلك، فإن ضبابية مستقبل البديل المحتمل للنظام السوري يبقى قائما، خاصة في نظر الأطراف الدولية والإقليمية. كما أن التحول النوعي الذي قد يحدث في مسار الأحداث ليس رهنا فقط باتساع نطاق الاحتجاجات، ولكنه يتوقف إما على تطور اقتصادي أو عسكري. التطور الاقتصادي قد يطرأ إذا تخلى عدد من كبار التجار، خاصة من السنة في دمشق وحلب وبقية المدن عن النظام، وانضموا للمحتجين بما يوجد عصيانا مدنيا واسع النطاق يترافق مع أزمة اقتصادية خانقة تجبر النظام علي التنازل أو التراجع عن القمع. أما التطور العسكري، فيكمن في انقلاب وزير الدفاع أو رئيس الأركان أو كليهما على حكم آل الاسد. والخيارات التي يمكن للنظام اللجوء، بشكل مقصود ومتعمد، إلى أحدها، أو المزاوجة بين عدد منها في الوقت ذاته، تتضمن إجراء إصلاحات داخلية واسعة في إطار صفقة داخلية، أو مواصلة القمع وتصعيده، أو السعي إلى إثارة أزمة خارجية، أو الوصول إلى صفقة إقليمية مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل تدعم بقاءه. أما النتائج المترتبة علي أي من هذه الخيارات، فإنها ستبقي مرهونة ليس فقط بتوازن القوي بين الأطراف المتصارعة داخل سوريا وتماسك كل منها، ولكن أيضا بتدخلات إقليمية ودولية، آخذة وتيرتها في التصاعد والتوسع، مما يفتح المشهد السوري علي احتمالات عدة قد لا يمكن لأي طرف بمفرده حسمها أو ضبط اتجاهها. ويلزم هنا توضيح أن إدراك الأسد لحجم الأزمة سيحكم خياراته. ومثلما يبدو، فإن الأسد ونظامه لايزالان يريان الأزمة حدثا عابرا يمكن تخطيه دون تقديم تنازلات جوهرية. وإذا ما اضطر النظام إلى تقديم تنازلات، فسيفضلها إقليمية وليس داخلية قد تجبره على تغيير جوهره، وبالتالي احتمال انهياره تلقائيا. من جهة أخرى، قد يلجأ النظام عمدا، أو يستدرج بحكم تطور الظروف، إلي التضحية ببعض أطرافه كي يتخفف من بعض أحماله. هذا الخيار ذاته قد يكون مدخلا لانفتاح على قوى أخرى داخل سوريا، أو محاولة لحسم الصراع وفقا لمنطق المباراة الصفرية. إلا أن ذلك الخيار يحمل كذلك مخاطر انفجار النظام من الداخل، إذا لم يحسن إدارة عملية التخلص تلك من بعض عناصره، ويحشد لها دعما داخليا وإقليميا يوازن أي صراع قد تولده. وحال عدم نجاح هذا الخيار، فإن ذلك قد يعزز من احتمال تشظي المشهد السوري ليصبح مشهدا فوضويا يتضمن وجود أطراف عديدة متصارعة، ربما يكون النظام أو ما بقي منه أحدها، دون أن يحوز أي منها السيطرة على أغلب مكونات المشهد أو القدرة على ذلك. وفي إطار الاعتماد علي الاقتراب المنهجي لنظرية "البجعة السوداء"، فإننا يمكن أن نرصد احتمالين لمستقبل الأزمة في سوريا يحققان الشروط الأساسية لهذه النظرية. حيث إن كلا منهما كان غير محتمل بشكل كبير قبل تفجر موجة الاحتجاجات الشعبية في المنطقة، فضلا عن أن كلا منهما سيكون حال تحققه ذا تأثير جسيم في الأوضاع داخل سوريا والإقليم، وكذا فإن تداعياتهما يصعب ضبطها أو التنبؤ بها بشكل محكم. أحد هذين الاحتمالين قابل للتحقق في المدي القريب، وهو سيناريو قد يتعمده النظام لضمان بقائه عبر إثارة حرب إقليمية، والآخر هو انفلات الأوضاع عن حدود ضبط أي طرف وسيطرته، وصولا إلي حالة فوضي شاملة في المديين المتوسط والبعيد.