تحرص الأنظمة التعليمية المتقدمة على صياغة المناهج والأنشطة المساندة لها حرصاً بالغاً, كما تحرص كذلك على حيادية هذه المناهج واستقلاليتها وانفتاحها على جميع الاتجاهات والرؤى وعدم تبني أحكامٍ منحازة حينما يتعلق الأمر بالمواضيع النسبية والخلافية,ولا يمكن في هذه الأنظمة المتقدمة للتعليم أن يُسند تأليف هذه المناهج إلى قلةٍ من الناس مهما بلغت كفاءتهم,بل تعهد بذلك إلى دور تأليفٍ عريقةٍ ومنفتحةٍ على جميع الرؤى الفكرية والعلمية ثم تختار من هذه المناهج ماتراه الأقرب إلى روح العلم الحرة والمنفتحة,كما تراعي هذه الأنظمة الفوارق الطبيعية بين المناطق المختلفة,فما يصلح لمنطقةٍ تهتم بالصناعة قد لا يكون مناسباً لمنطقةٍ زراعيةٍ أو سياحية وهذا التمييز بين المناهج هو الخطوة الأولى في تأهيل الطالب لسوق العمل الذي تحتاجه منطقته وطبيعتها,وقد جربت الأنظمة الشمولية توحيد المناهج في جميع مدارسها ففشلت فشلاً ذريعاً جعلها تعود إلى المناهج المختلفة والمتنوعة.ومن أهم ماتتميز به مناهج الأنظمة المتقدمة هو حيادها العلمي الرصين,فهذه المناهج تربأ بنفسها عن التحيز إلى تيارٍ أو حزبٍ أو مدرسةٍ فكرية، فمن طبيعتها اللازمة أن تكون فوق الصراعات والخلافات,وهذا الحياد الرصين يجعلها ملزمة ً بطرح مختلف الأراء وإعطائها مساحةً متساوية وعدم التمييز بينها في طريقة العرض والطرح,وهذا مايمكن طلاب هذه الأنظمة من بناء عقلهم الخاص ومهاراتهم الخاصة ليكونوا بشراً أسوياء فيما بعد. وحين النظر في حال مناهجنا الدراسية في السعودية فلن نحتاج إلى كبير عناءٍ لنكتشف خلو هذه المناهج من الحياد العلمي الرصين, كما لا تميز هذه المناهج بين الطالب في منطقةٍ صناعية كشرق المملكة مثلاً وبين الطالب في منطقةٍ زراعيةٍ سياحية كجنوب المملكة الغربي فهي تقدم نفس المعلومات عن البترول ونفس المعلومات عن المحاصيل الزراعية بنفس الكمية وبنفس الكيف لكلٍ من الطالبين!!!كما سيظهر لنا واضحاً تأثير صراع التيارات في بنية هذه المناهج وعدم استقلاليتها فهي تتأثر بالخطاب السياسي وبالخطاب الديني وبالتقاليد الاجتماعية الخاطئة والجاهلة, وقد يبدو تأثير الصراعات بين التيارات أكثر وضوحاً في المناهج النظرية كمناهج المواد الدينية ومناهج اللغة العربية والعلوم الاجتماعية,فحين النظر في المناهج الدينية لمختلف المراحل سيبدو لنا واضحاً أنّ مؤلفي هذه المناهج لا ينطلقون من دافعٍ علمي محايد بل يتعاملون مع الطلاب وكأنهم مشاريع ضلالٍ ومعصيةٍ قادمة,فتراهم ينحازون إلى مدرسةٍ معينةٍ فيمعنون في التحريم والتحذير والتفسيق والتبديع,ويحرصون على تناول كل المواضيع الدينية من رؤيةٍ واحدةٍ لا تعترف بالتفرد والتمايز فكل ماعدا قولهم ضلالٌ وبدعة!!وهذه المناهج المنحازة لا يمكن أن تكون مستقلة عن صراع التيارات فقد رأينا تعديلاً كبيراً وصائباً على هذه المناهج بعد هجمات نيويورك وبعد الاتهامات التي وجهت للمناهج السعودية فتم تنقيح هذه الكتب من بعض مافيها من الحدية والمفاصلة في مسائل الولاء والبراء والجهاد ولكن هذه التعديلات لم تؤت أكلها فقد عادت هذه المناهج لهذه الحدية عن طريق مواضيع مثل خطر الابتعاث وخطر التغريب والتحذير من تحرر المرأة!! وهذه المناهج لا تحتوي على قراءاتٍ محايدة ومتجردة لنشوء المذاهب الإسلامية المختلفة والرؤى الفقهية المتعددة وهذا ما يجعل نتاج هذه المناهج من الطلاب نتاجاً ردئياً ومتشدداً وفي غاية السطحية والانغلاق,حتى غدا هدف هذه المناهج كما يقول أصحابها هو أطر الناس على الحق أطراً!! وليس عرض الرؤى والأفكار جميعاً ثم ترك الطالب يكتشف ويختار كما هو المفترض.ولا يقف تأثير الصراع بين التيارات الدينية على المناهج الدينية بل يتعدى ذلك إلى مناهج اللغة وعلوم الاجتماع,وكلنا يعرف الحملة الشعواء التي شنتها بعض هذه التيارات على وزارة التربية والتعليم حينما قررت تدريس اللغة الإنجليزية لطلاب المراحل الابتدائية مما جعل الإقرار الصوري لهذا المشروع الحضاري فارغاً متردداً, ولا يمكن أن تخطئ العين النفس الأممي في مناهج الجغرافيا في مختلف المراحل حيث تريد هذه المناهج من الطالب أن يعرف عن بنجلاديش ونيجيريا أكثر مما يعرف عن الرياض أو جدة أو الأحساء أو جيزان رافعة الشعار الشهير وأين ماذكر أسم الله في وطنٍ.........عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني وكأن أسم الله لا يذكر في مناطق السعودية فهذه المناهج لا تأتي على ذكر هذه المناطق إلاّ عرضاً ولماماً!!! أمّا مناهج اللغة العربية والأدب العربي فقد تم مسخها بالكامل وتحويلها إلى أقاصيص وعظية لا تعلّم لغةً ولا ترتقي بذائقة,وفيما يتعلق بالمناهج التاريخية فقد تم اصطفاء روايةٍ وحيدة وساذجةٍ لأربعة عشر قرناً من التاريخ الواسع والعميق والمتشعب,فأصبحت مناهج التاريخ شتيمة للتاريخ وللعقل في آنٍ واحد ولذلك لا عجب أن يأتي من يقول إنّ عاصمة الدولة الأموية هي الدولة العباسية!! كما قال أحد خريجي هذه المناهج في سؤالٍ تلفزيوني على القناة الإخبارية السعودية.وقد امتد هذا التأثير ليصل إلى المناهج العلمية البحتة كما في منهج الفيزياء والكيمياء عند الحديث عن المادة والكون وأصلهما ومكوناتهما,ولا زلت أذكر في أحد اختبارات المرحلة الابتدائية لمادة الرياضيات حينما كان السؤال كما يلي:إذا كانت القنبلة اليدوية تقتل خمسة كفارٍ فكم كافراً تستطيع أن تقتل بخمس قنابل!!!!. وربما يقول البعض أنّ الخطاب الديني ليس وحده من يؤثر في هذه المناهج فالخطاب السياسي كذلك يمارس دوراً تأثيرياً على هذه المناهج,وهذا صحيحٌ إلى حدٍ ما,ولكن ما أثبتته الأحداث أن الخطاب السياسي كان أكثر تسامحاً مع المناهج بل وكان سبّاقاً في كثيرٍ من الأحيان إلى التغيير والتطوير والتحديث,ولكن ماكان يعيقه في- وجهة نظري-في بعض المراحل عن هذا التطوير هو ممانعة الخطاب الديني وخوفه وتوجسه الدائم من كل جديد كما كان الوعي الجمعي المتدني لدينا عائقاً يستقوي به التيار الديني في ممانعته كل أشكال التطوير والتغيير حتى وإن كانت عديمة الصلة بالجانب الديني.ولذلك كانت جناية الخطاب الديني المتشدد على هذه المناهج جنايةً كبيرةً وبالغة الأثر والسوء. [email protected]