يحكى أن فوزان المتنقل بين الأزمان، توقف في القرن الثالث عشر .. ليستريح قليلاً من عناء السفر . وتناقل الناس الأخبار، حتى وصلت إلى الملك شهريار، فطلب من الحاشية احضاره في الحال . وعندما مثل فوزان أمام الملك شهريار استقبله ورحب به، وقال له : يافوزان هلا قصصت علينا من الطرائف، فقد سمعت أنك على المدائن والأزمان طائف، فسماع القصص قبل النوم اصبح عندي فريضة، وشهرزاد اليوم مريضة، فعليك أن تعوضني عن غيابها،وهذا أمر لا رجاء،وإن فعلت فإن لك عندي أجزل العطاء. فقرر فوزان بعد أن رأى الخمر والحسان،أن يروي للملك طرائف من آخر الزمان : وقال : كان يامكان في قادم العصور والأزمان،أن تغير الوضع عما هو عليه الآن،فقد أصبح العالم قرية،إذا غنت مطربة في الشام، رقص السامع في الفيتنام . في ذاك العصر يا شهريار توحد العالم وارتقى فيه الإنسان بالإنسانية واتفقوا على رأي واحد، وأسسوا منظمة دعوها "عصبة الأمم" يرجعون إليها في كل أحوالهم، تنصر المظلوم، وتحاكم الظالم، تساعد الفقير، وتعالج المريض، وتعامل الجميع بالعدل والمساواة، لا يتدخل في حكمها قوي، ولا يسكت فيها الضعيف خوفاً من عاقبة كلامه، فالجميع يقول رأيه بصراحة، فللكل هناك مساحة، وما اتفقت عليه الأغلبية، طبق على سائر البرية . تعجب الملك شهريار من هذه الأقوال، وسأل شهريار هل لي على ما تقول دليل أو مثال؟! . فعدل فوزان من جلسته وقال : وما أكثر الأمثلة على ذلك يامولاي . ومنها : أنه حدثث ذات مرة معجزة خيالية، وهي أن ثارت شعوب عربية، كانت تساق كالقطيع، وشغلها الشاغل هو أن تسمع وتطيع، خرجت هذه الشعوب على حكامها وغيرت نظامها، وقد حاولت الحكومات التمسك بالبقاء كل بما يسمح به وضعه، ولكن أحدهم قرر البقاء رغم انف الشعوب وحاول قمعهم بالقتل والتنكيل والتعذيب والتبريح، ومازال بشعبه يقتل ويشرد، حتى تجمعت "عصبة الأمم" وقرروا أنه تمادى . فوكلوا جيوشهم وأرسلوا فرسانهم، وأمطروا عليه وابل السهام، وساهموا في إزالة النظام، وتسلم الشعب الزمام . أليس في هذا نصرة للمظلومين ياسيدي ؟ فأجاب شهريار بإعجاب : نعم .. ونعم عصبة الأمم تلك، هل من مزيد ؟ قال فوزان : بالتأكيد سيدي .. بالتأكيد . فحاكم الشام أيضاً فعل كما فعل الأخير . وفاقه في القتل والتنكيل، وقتل الصغار قبل الكبار، والنساء قبل الرجال، والعالم يسمع ويشاهد، والشعب الشامي يستجند ويناشد، ولكن لا أحد يحرك ساكناً.... قاطعه شهريار صائحاً : ولكن لماذا ؟!! وأين العدل هنا ؟ ابتسم فوزان بثقة، فلديه الرد الوافي : يا سيدي بجوار أرض الشام نشأ كيان، للمستضعفين في الأرض والمنبوذين من كل البلدان، جماعات من بني صهيون حرقهم الألمان، ونبذهم الطليان، فأوجدت لهم "عصبة الأمم" ملجأ هنا بين كارهيهم بجوار بيت المقدس، في رقعة صغيرة، وهم مسالمون، لا يقتلون إلا عند الضرورة، يقتلون فقط إذا جاءوا ليأخذوا بيتك ليسكنوا وأبيت، فهذه ضرورة إذا رفض هذا وهذا فإين سيسكنون هم ؟! فيضطرون للقتل دون رغبة . لذلك وخوفاً من أن يزعجهم ضجيج المعركة، أو أن تسقط عليهم سهام صديقة، أو أن بعض ضغاف النفوس يستقل المعركة، فيقصفون المساكين في ديارهم الآمنة . قررت عصبة الأمم بصمت أن ما يحدث في الشام أمر داخلي، ومسألة بين الراعي والرعية والنظام قادر على إدارة شعبه، فلا داعي للتدخل حتى لا نفتح باباً للفتنة، ونتسبب لبني صهيون في الإزعاج . أليس في هذا رأفة بالمساكين ياسيدي ؟ "ونعم الرحمة بالمسكين " هكذا قال شهريار .. ثم أردف : زدني يا فوزان زدني . تثاءب فوزان وقال : لقد أخذ مني التعب والسهر ياسيدي فأذن لي أن أنام . رد شهريار قص علي قصة قصيرة ولتكن هي الآخيرة . قال فوزان : لك ذلك ياسيدي . هناك دولة قوية وكبيرة لم تسمع بها ياسيدي فقد تأسست بعد قرون، في أقصى غرب الكون، يحكمون بالعدل والحرية، تحت مسمى الديمغراطية . ولكنهم ياسيدي لا يسمحون أن يتدخل أحداً في شأنهم . ويعاقبون كل من يهدد أمنهم أو يفشي سرهم، فإذا كنت مثلاً مراسلاً لقناة عربية، في موقع لهم فيه مصلحة أو نية، فستنام الليلة في غونتنامو، وما أدراك ما غونتنامو .. حتى ظهر "الويكيليكس" ياسيدي، ينشر أسرارهم هنا وهناك، ويوزعها في كل الأفلاك، يجوب بها القرى والمدائن، يفضح اسرارهم وأسرار اصدقائهم وأعدائهم، وهم يا سيدي عاجزون عن اسكاته، ويرجونه أن يكف عن مزاحه الثقيل . هذا لغز يا سيدي .. سأذهب لأنام كما وعدتني، وفي الصباح أرجو أن تكون قد وجدت الحل . لأنني سأغادر إلى آخر الزمان حتى لا تفوتني الأخبار . ودعه شهريار وتمنى له أحلاماً وردية . وفي الصباح استيقظ فوزان من نومه مبكراً .. وكان شهريار لم يزل نائماً .. فلم ينتظر فوزان لأخذ الجائزة .. أو يسمع حل اللغز فقد كانت راحلته جاهزة . وعاد فوزان لآخر الزمان، واستقبلته قوات ملثمة، وأصدرت محكمة العدل قراراً بالسجن وحظر عن التحليق .. لأنه تكلم بما لا يليق، لجماعة من الزمن السحيق .