" كان رحمه الله كثير الصمت ، يحمل هموم أمته في قلبه، ومن ثم فهو شديد الحساسية لكل ما يحدث، عميق الانفعال به، وذلك جزء كبير من مسببات مرضه..... إن الموت حق، لكن اختفاء هذا الجيل من مسرح الحياة، هو اختفاء لكل السجايا الحميدة، والخصال النادرة، والرجولة الفارعة، التي تميز بها، والتي يندر وجودها هذه الأيام، بينما تشتد الحاجة إليها ..." من مرثية محمد صلاح الدين لأحد أصدقائه حقاً: كان أستاذي الراحل محمد صلاح الدين يحمل هموم أمته في قلبه، ثم يحولها قلمه إلي صرخات مدوية ضد كل أشكال الضعف التي تُعاني منها أمته، وإلى استغاثات باكية لكل القادرين على انتشالها من تخلفها، ومن ضعفها، ومن جهلها، ومن فوضويتها، ومن فساد فاسديها، وطغيان طغاتها، ومن ظلم ظالميها، ومن نفاق منافقيها، ومن فقرها رغم غناها، ومن استهتار ذوي القوة بضعفائها: ذوي القوة المالية والفكرية والسياسية ، وغير ذلك من القوى التي تصيب أمتنا في صميم وجودها، وتحول بينها وبين أن تكون خير أمة أخرجت للناس، كما أرادها ربنا سبحانه، وحقا كان كما يقول الشاعر: ضموم على الهمّ الذي بات ضيْفه جموعٌ على الأمر الذي كان أزمعا لم تكن وفاته مفاجئة لمتابعي حالته المرضية التي استعصت على الطب، وقد رأى أصدقاؤه وهو يعودونه في مشافي المملكة وخارجها عجز الأطباء عن تحسين حالته، ورأوا سهم القدر موتر قوسه، وقد حرصتُ على أن أبشر أصدقاءه بعودته إلى داره، من سفرته العلاجية خارج المملكة، وطلبت مع البشارة أن يدعو له بعاجل الشفاء، متحفظاً حتى لا يسرفوا في التفاؤل، فقد رأيت عندما زرته بعد عودته لمنزله ما لم يروه، ومع ذلك لما نعاه الناعي " فزعتُ من آمالي إلى الكذب" قبل أن أستعيد ما تبقى من رباطة الجأش فأتذكر أن الموت حق، وكل نفس ذائقة الموت، وكلنا في الطريق إليه " وأن طريق المجد لا ينتهي إلا إلى القبر. حوضٌ هناك مورود بلا كذبٍ لا بد من ِورده يوما كما وَرَدوا كان كل شيء في أستاذي رحمه الله محبباً لمن يعرفه، فأينما تفرَّست في وجهه، وتأملت مسلكه، وووقفت على أسلوب تعامله، وتعرفت علي منهجه في التفكير وفي الكتابة، أعجبك كل ذلك فيه، طهارة ذيله، حُسن أخلاقه، فضائله، جده، هزله، كلامه على قلته، صمته على طوله في المجالس الصاخبة، حفاوته بمن يعرف ومن لا يعرف" وإذا قال بذّ القائلين مقالة" وكما يقول الشاعر أبو تمام: لا تعرف تألف الفحشاء برديْه ولا يسري عليه مع الظلام المأثم يحبه من يحبه في مكتبه، حيث يسكنه سحابة النهار وشطرا من المساء، لا يغادره حتى ينهي كافة التزاماته، يحبه من يحبه لمواعيده التي تضبط عليها ساعتك، لا يتأخر، مطبقاً الحكمة" إياك ما يُعتذر منه" ويحبه من يحبه لباب مكتبه وداره المفتوحين لأصدقائه، وزواره، وقاصديه في الشفاعات، يولم للعائد منهم من سفر، بعيداً أو قريباً... حبيبٌ إلي الزوار غِشيان بيته جميل المحيا شب وهو أديب يواسي الخارج من مرضه، ويهنيء علي البشارة، من ترقية وزواج ووكيرة، ويكرم أصدقاءه فرحاً بفرحهم مهما تعددت المناسبات، ويجمعهم علي مائدته وقد شط المزار بالكثير منهم، ويحيطهم بدف ترحابه، فيلتقون في داره بعد طول فراق، فتره مسروراً للقائهم ، واعدا بتكرار اللقاء، موفياً بما وعد، وهو في هذا كما يقول الشاعر الخزيمي: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصُبُ عندي والمَحْل جَديبُ وما الخِصب للأضياف أن يكثر القِرى ولكنما وجه الكريم خصيبُ يحبه من يحبه، لحبه للعمل، مجسما في ذلك أقصى درجات الجد والمسؤولية، وما رأيت أحداً ألغى الإجازات الأسبوعية والشهرية، واختصر الأعياد في العمل كما رأيته، فأنت ضامن أن تجده في مكتبه إلا أن يكون في ارتباط سابق، حتي أن صديقه وصديقنا الأستاذ محمد عمر العامودي كاد يُخاصمه علي أنه لا يرحم نفسه، فلا يمتعها بالراحة، ويدعوه لأخذ راحة كل يوم، وكل أسبوع، وكل عيد، وكان يقول :إن راحته في العمل، وأن أوائلنا بنوا مجد أمتهم على جدهم في العمل المتواصل بغير إجازات، لا أسبوعية ولا شهرية ولا سنوية، إلا ما يكون من الفرح بالعيدين ... وكان يقول لي: هل كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بإجازة، هل كان الصحابة من بعده يتمتعون بإجازات، كانت حياتهم كلها جد في جد، لا مكان فيها إلا للقليل من الترويح عن النفس ، وكذلك يرى أن نكون كذلك ..... ما رأيت أستاذي أحب شيئاً إلا يكون قد اجتمع أصحاب الفضل والأخلاق على حبه، يحب ربه سبحانه وتعالى، وتراه في صلاته مستغرقاً يناجيه ويرجو رحمته ويخشى عذابه، ويتخذ لنفسه ورداً يومياً من القرآن الكريم – وقد حفظه في صغره - لا يتركه سفراً ولا حضراً، ويحب نبينا محمد خاتم الأنبياء، وينتفض كله، ويصب جام قلمه على كل من يمس الذات الإلهية أو ينال من نبينا الكريم، وجولاته في هذا وصولاته يشهد بها – الفلك يدور – إذا سمِعت بواحدٍ جُمِعت له فِرَق المحاسن في الأنام، فذاكا ويحب دينه ويرى أنه خير دين، ويرى في نظامه خير نظامه، وفي خلقه خير خلق، وفي طرائقه أفلح الطرق، وفي سلامه السلام، فهو عنده دين السلام ، وفي عدله فهو عنده نموذج العدالة الإنسانية، وهو عنده سبب خلاص البشرية مما هي فيه من إحن ومحن، ومن جوع ومرض، ومن حروب وعداوات، ومن ضلال وهزء بالقيم، وحق له أن يترنم بين آن وآن بأبيات من شعر محمد حسن فقي رحمه الله:. منح الهدي للكون حين تمزقت أوصاله بجحوده وضلاله فإذا الذين يزيغهم بهتانهم يجدون نور الحق طيّ مقاله إذا تبين له موقف يجب أن يقفه، أو رأى يفيد أن يعبر عنه، فإنه يمضي إليه بخطاب واضح، ولغة مفهومة لا تعقيد في كلماتها، يعرف مآلات الرأي في أوقات الشدة، فيبسط كلامه هينا لينا إذا نقد، رقيقا إذا نصح، فيكون من وقعه القبول عند الناس كافة، وهذا ما وسّع شعبيته، وجعله ملء السمع والبصر، بين الشباب قبل الكبار، مما نشاهده في كتابات الأصدقاء من مفكرين وكتَّاب من مختلف الأعمار والمشارب، في مواقع الإنترنت والفيس بوك، والتويتر- كان أصحابه وقراؤه يرون فيه عقلاً راجحاً، وفهماً صائباً، وتحليلاً رصيناً ، واستنتاجات صائبة، ورأياً سديداً، يكره الغلو والمغالين، ويحب الاعتدال والقصد في الأمور كلها، من المأكل والمشرب إلى عثيّت الفكر والرأي، وكما يقول – إبن المعنز: عذب الخلائق كلما جربته فيما تحب رأيته يزداد فصبراً يا زوجه، ويا بناته وولده، ويا أحبابه: من زملاءَ وأصدقاءَ وتلامذة ومعارفَ ، فإن ما رافق مرضه وموته من مبشرات ، وما عرفه عنه القريب والبعيد، والخصيم والصديق، يجعلنا نطمئن إلي لطف الله تعالى به وهو الكريم، العفو، الغفور، الذي إذا أحب عبداً من عباده ابتلاه، ونسأل الله أن يكون مرضه طهوراً له، وبصبره عليه تمحيصاً، يُضاعف الله أجره، وينعم عليه بالفردوس الأعلى، وإنا لفراقه – والله – لمحزونون" إنا لله وإنا إليه راجعون" ...