التهديد الإيراني غير المسبوق لإسرائيل لم يكن سرياً ولم يتم تسريبه لوكالة الأنباء، بل لم ينسب إلى مصادر رفيعة أو غير رفيعة في الدولة الإيرانية. والقائل شخصية عسكرية ذات منصب رفيع في الجمهورية الإسلامية وهو محمد رضا اشتياني الذي قال في وضوح لا يقبل التأويل "إذا أرادت إسرائيل اتخاذ أي إجراءات ضد الجمهورية الإسلامية فسنمحو إسرائيل من على وجه الكون". أين من هنا إذن؟ طهران تجاوزت الخطوط الحمراء التي كانت حدودها تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمد نجاد الذي كان يتنبأ بزوال إسرائيل ودمارها، ويدعو إلى ازالتها، لكنه لم يقل إن تلك المهمة مسؤولية إيرانية. الأمر الآن اختلف وخرجت الأمور أو كادت على نطاق السيطرة، ويبدو أنها آخذة في التدحرج على نحو ربما يكون من الصعب على أحد من اللاعبين العودة إلى المربع الأول الذي انطلقت منه حملة التهديدات المتبادلة "بالابادة" والتي أطلقها وزير البنى التحتية بنيامين بن اليعازر. ماذا قال بن اليعازر؟ وزير البنى التحتية أطلق تهديداً غير مسبوق أيضاً عندما قال إذا ما تجرأت إيران على اطلاق الصواريخ الباليستية "العادية" وليست الذرية على إسرائيل فستكون هذه نهاية إيران. يعلم الجميع أن الدخول إلى ميدان المبارزة بالإبادة الذرية محفوف بالمخاطر، لأن أي حسابات غير دقيقة قد تشعل في المنطقة حريقاً ذرياً وحرب تدمير متبادل بكافة الأسلحة، وخصوصاً البيولوجية والكيماوية، وهي متوفرة بكثرة في إيران وسوريا، وخصوصاً في إسرائيل ذات الترسانة الضخمة من أسلحة الدمار الشامل. لا يعرف أحد أين ستنتهي الأمور وكيف سيكون شكل المنطقة وطبيعة موازين القوى بعد أن ينجلي غبار المعركة "الذري" وبعد أن تتراجع أو تخف تداعيات السموم الكيماوية والبيولوجية التي ستشكل سحابات كثيفة في سماءات المنطقة بأسرها. نتحدث هنا عن نموذج مصغر ليوم "قيامة" عسكرية حقيقية، إذا لم يتم كبح جماح حرب التصريحات التي تجاوزت التصريح الشهير للرئيس العراقي السابق صدام حسين في أواخر ثمانينات القرن الماضي، عندما هدد "بحرق" نصف إسرائيل، وبدأ بعد تلك اللحظة التي تلت تصريحه الأخرق وغير المسؤول والساذج، العدّ العكسي لاطاحته إذ تبين أن نظامه لا يعدو كونه نمراً من ورق. وأن ليس لديه ما يحرق 1% من إسرائيل، بل حتى لو توفر على مثل هذه القدرة فإن الحكمة السياسية وبعد النظر يفرضان عليه عدم التصريح بذلك حتى لو كان يتوفر على مثل هذه القدرة، لكنها ثقافة التظاهر والكبرياء الفارغ والسذاجة السياسية التي تعوّد عليها عرب اليوم والتي أفضت بنا إلى كل هذه الهزائم والكوارث والانكسارات. قد يكون الإيرانيون قرأوا مثل هذا الكلام أو هم لم يطلعوا عليه أبداً، لكنهم في كل الأحوال لا يتركون أمورهم للصدفة وينجحون في إدارة صراعهم المقترح مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل بحساب دقيق للمعادلات الاقليمية والدولية دون أن يقعوا في وهن نتائج الحوار الذي تدعوهم إليه أمريكا، والذي كشفت صحيفة اندبندت البريطانية عن سلسلة لقاءات سرية عبر قناة خلفية جرت بين واشنطنوطهران على مدى الأعوام الخمسة الماضية، ناقشا خلالها البرنامج النووي الإيراني والعلاقات الأوسع نطاقاً بينهم. نحن إذن أمام لعبة سياسية ودبلوماسية "ببعد عسكري" معقدة يديرها الطرفان الأمريكي والإيراني بحذر وذكاء وتربص وفي دهاء على الطريقة التي تدار بها لعبة الشطرنج التي وإن كان الإيرانيون اخترعوها وبرعوا فيها إلا أن الأمريكيين لا يقلون مهارة وذكاء. مدير عام وزارة التخطيط/ متقاعد 6658393