** في "ليبيريا" القابعة في أقصى جنوب غرب أفريقيا، كانت الانقلابات العسكرية "موضة" قبل حوالى عشرين عاماً، وتكررت حالات "قفز" العسكر على مقاعد السلطة أكثر من مرة، وبشكل لافت، وقرأت حينها للكاتب الراحل وزعيم الكتابة العربية الساخرة محمود السعدني "ان الجندي الذي يصحو مبكراً، يمكنه ان يجلس على مقعد الرئاسة وينادي بنفسه رئيساً للدولة"!!.. وحدث كذلك في عالمنا العربي خلال عقود مضت من الانقلابات أطاحت بهذا وجاءت بذاك من العراق شرقاً إلى الجزائر غرباً، ومن سوريا شمالاً الى اليمن جنوباً. ** تلك كانت مرحلة زمنية تقبل الانقلابات، وتعتمدها أسلوباً للوصول الى سدة الحكم، عبر تحريك الدبابات وتطويق القصر الرئاسي، والخوض في بحار من الدماء، من أجل تحقيق الهدف المرسوم، وهو الاطاحة بالرئيس في ليل مظلم، واعلان البيان رقم واحد، واقامة الافراح المصطنعة في الشوارع والساحات، وانزال صور الرئيس المخلوع، وإبدالها بالرئيس الجديد، فاتح الفتوح، وزعيم الصروح!!. ** ومع الأيام لم يعد ذلك المنهج في الوصول للسلطة مقبولاً، لأسباب كثيرة، أولها قناعة المجتمعات العربية وربما غير العربية من دول العالم الثالث (ممن لا يملكون نظاماً مؤسسياً) بأن الانقلابات شرها أكثر من نفعها، وانها مجرد (ضحك على الذقون) فهي مجرد تبديل اشخاص، لا تبديل نظم حياتية تفيد العباد والبلاد، فوق أن الوعي العالمي العام بدأ يتجه رويداً رويداً الى الاقتراب من الفكر المؤسسي، الذي لا يؤمن ولا يشجع العنف سبيلاً للتغيير. ** خفتت أو لعلها ماتت وإلى الأبد حكاية الانقلابات العسكرية، حتى إن مجرد التفكير فيها صار ضرباً من الجنون، وبدأ العالم يفكر في الحوار، والاصلاح، والعمل السلمي المنظم للاصلاح والتغيير، بأدوات جديدة مختلفة، لا تحرق أعلاماً، ولا تحطم صوراً، ولا تريق قطرة دم واحدة، وكان من ثمار ذلك انهيار جدار برلين وتوحيد الالمانيتين، ثم هبت الرياح على أوروبا الشرقية، ثم عصفت بالاتحاد السوفياتي، ثم وصلت متأخرة الى المنطقة العربية، كما جرى في تونس ومصر بالتتابع. ** وما يجري في البلدين العربيين الشقيقين تونس ومصر، أظن انه آخر ارهاصات التبديل السلمي، ولن يتكرر المشهد في أي بلد عربي آخر لأسباب كثيرة، أولها أن الشعوب والزعامات قد وعت الدرس جيدا، فأسباب التبديل في القاهرةوتونس كانت درساً كافياً لفهم الحاجة إلى الخبز والأمن والحياة الكريمة. ** وفي ظني أن على الشعوب العربية، وهذا ما يهمنا أكثر- أن تمنح السلطات فرصة استيعاب درس مصر وتونس، وألا تبادر إلى العواطف، والانسياق وراء موضة "ميدان التحرير" ذلك لأن الهدف ليس التظاهرات، ولا الاعتصام، ولا إلى خروج موجات من الشعب إلى الشوارع يحملون يافطات معادية للسلطة، بل الهدف هو الاصلاح، وسن القوانين القادمة من شرع الله تعالى ومن منطق الحكماء الموافق لحكم الله، وأن يشاع العدل، ويتلاشى الظلم والمحسوبيات، وأن تتاح الفرصة للناس في التعبير عن رؤاهم بحوارات منظمة ومنظبطة وضمن أطر عقلانية، وأن تتلاحم القيادات مع الشعوب من أجل أوطانهم وأجيالهم وغدهم، ليتقدموا خطوات أخرى إلى الأمام، ينافسون بها دول العالم المتقدم في التعليم والصناعة والصحة وغيرها. ** ليس صواباً بحال من الاحوال أن تصبح التظاهرات موضة عربية تتنقل من بلد إلى بلد، ولا أن يتحول ضجيج ميدان التحرير وقبله اصداء محمد البوعزيزي إلى عواصم عربية أخرى لأن هذا سيعطل المسيرة الانمائية العربية، ويدخل شعوبها في انفاق مظلمة، ومتاهات لا يعلم مداها إلا الله تعالى، مطلوب الهدوء، ولا شك في أن الرسالة قد وصلت وأن الإصلاحات قادمة لا محالة.