حينما يأتي الحديث عن الوطن فلا شك ان الخيال يسرح بعيدا في الأفق السحيق وتقف النفس الأبية على مشارف الدنيا ترقب مصدر إلهامها وتحصي مسارات أفراحها وأحزانها نحوه، تستنطق ضميرها وتستلهم عظمة الرب في نصب الجبال الرواسي وتمعن النظر في السهول الممتدة وفضاء أوطانها وتحوم على أطرافها حاملة في وجدانها عشقا يليق بإيمانها الراسخ بمحبة الوطن، وهكذا هي النفوس الأبية التي ورثت من دينها ومبادئها الخالدة وتراثها الأصيل هذه العلاقة الوطيدة مع أوطانها. وحينما تشذ النفس وتضعف ويسير بها الركب في سراديب الظلال ويمتطيها الشيطان ويضع مكره في الرؤوس الفارغة فلا شك أنها وبالا على الوطن وخنجرا ينغرس في خاصرته ويظهر العقوق جليا في أبشع صوره وينقلب الولاء إلى عداوة وتنفث النفوس المريضة سقمها ليغتال الأحلام والتطلعات الإيجابية، ولهذه الحالة وجهان مختلفان يصنعان الألم بلا رحمة في جسد الوطن ويتنازعانه كل يريد اختطافه بالطريقة التي تتواقف مع نهجه وسلوكه المؤدلج والتلذذ بتعذيبه في سبخة التخلف.لقد عانى الوطن من الاختطاف لفترة غير قصيرة من الزمن على أيدي الغلاة الذين جعلوا من ترابه الطاهر ساحة لاستعراض وحشيتهم وتبديد مقدراته وتحطيم مقومات تطوره من خلال أدوات القتل والدمار التي صنعوها لهذا الهدف وخططوا لتشكيل الرأي العام حسب أهوائهم الشيطانية لولا فضل الله ثم السيطرة عليهم وفضح مخططاتهم وأفكارهم وتوجهاتهم الخارجة عن الدين وروحه السمحة قبل فوات الأوان. لقد تغلغل هذا الفكر الضال في أوساط بعض الشباب فتلوثت فطرتهم السليمة وخرجت هويتهم الدينية عن سياقها الصحيح وانداحت مع معتقد الشيطان في خندق يغلي كرها وحقدا وتشاؤما ووقفوا في صف ابليس وغابت عقولهم عن الوعي والادراك ولم تعد تعي معاني دستور شرع الله ولم تستجلي أروع معانيه وآياته البينة التي تحث على الوسطية كمنهج تحيا به الأمة وتستقيم به أمورها، فأنطلقت تعيث قتلا ودمارا بحق الوطن والأبرياء من أبنائه باسم الدين والذود عنه حتى قيض الله له رجالا اوفياء وقفوا بشدة في وجه تلك الفئة الباغية الضالة ونسفت مخططها ودكت حصونها وحالت دون اختطاف الوطن على ايديهم واستأصلت شأفة فكرهم الضال المنحرف المتعطش للدماء حتى انحسر بلاؤه وضعف شره وبات الوطن في مأمن من شرهم تحرسه وتحميه أيد أمينة من شرور المارقين وتنير له درب العزة والرفعة. بيد أننا في هذه الفترة تحديدا نعيش أجواء ضبابية غير معتادة في ظل بروز اشكالية فهم الحياة لدى جيل حديث عهد بها نراه ينزلق بسرعة نحو التحلل من القيم ويتطلع الى استمراء العيش وسط مجتمع فاقد للهوية قد تؤدي في النهاية الى اختطاف الوطن بطريقة أخرى لا نقل بشاعة عن سابقتها وحمله على الانسلاخ من قيمه ومسخه والزج به في أتون التقليد الأعمى للمجتمعات الغارقة في فوضى الخواء الفكري والروحي، فحينما يفقد الإنسان هويته ويبقى رقما على هامش الحياة وجسدا بلا روح فإنه يتحول الى معول هدم واهدار للطاقة وقتل للروح المعنوية الطموحة التي تتشكل منها هوية الوطن وتتفجر منها طاقات الابداع. لقد بدات الهوية تتشكل على نحو يثير بعض التساؤلات عن مدى تحمل الجيل المخضرم المحافظ لمسؤولياته نحو الجيل الصاعد حيث اصبحنا نشاهد انماطا مختلفة على هيئة مسخ تجوب شوارعنا يقودها بلا وعي بعض الشباب ممن استغرق في حب التقليد والانبهار بقشور الحياة الزائفة المستوردة من دائرة معارف متنوعة وثقافات مختلفة عبر ما تطرحه وسائل الاعلام المتعددة في ظل تواصل العالم عبر شاشة صغيرة تستطيع تشكيل توجهات الأجيال الحائرة وتنقل وقائع حياة الناس اليومية في مختلف أنحاء العالم على مدار الساعة وتصديرها بغثها وسمينها من خلال تلك الموارد المتعددة واختلاف مفاهيمها مما زاد من اشكالية فهم الحياة بشكل افضل لدى هذه الفئة التي تسعى الى الامساك بزمام الحياة على النحو الذي يرضي غرورها ويحاكي غرائزها.