لو أن رجلاً أرهقته الديون و كَثُرَ عليه الغرماء وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئاً فتوالت عليه الهموم و أصابه من الغم ما نغص عليه عيشه فتوارى عن أعين الغرماء و اختبأ في بيته ، و إذا بالزوجة و الأولاد يطالبونه بالنفقة و الطعام و الشراب فخرج من بيته هارباً لا يدري إلى أين يتجه و بمن يلوذ فلقيه رجلٌ فقال له : إلى أين ؟ مالي أراك مهموماً ؟ فبث إليه شكواه فقال له : لا عليك ، اذهب إلى التاجر الفلاني فإنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر سيسدد ديونك كلها و يعطيك من المال ما يسد حاجتك وزيادة و هو مع ذلك يفرح بمن يقدم عليه بل يبادره بالعطية . هل تتوقعون عباد الله أنه يتأخر أو يتردد في الذهاب إلى ذلك التاجر كلا كلا . و لله المثل الأعلى : نحن أشبه ما نكون حالاً بذلك الرجل أحاطت بنا الذنوب إحاطة السوار بالمعصم ذنوب جنتها العين و ذنوب جنتها الأذن و ذنوب جناها اللسان و ذنوب مشت إليها الرجل و ذنوب و ذنوب و ذنوب ... أوقعتنا في الهموم و الغموم والضيق إن توارينا عن الناس و اعتزلناهم و فررنا إلى البيوت خوفاً من تلك الذنوب لاحقتنا حتى في غرفة النوم فإلى أين المفر و أين المخرج لا ملاذ لنا و لا مفر إلا إلى الله { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } الله الذي هو أرحم بالواحد منا من أمه و أبيه بل أرحم به من نفسه يفرح بإقبال عبده إليه ، من فر إليه فرت إليه الخيرات من تقرب إليه توالت عليه المسرات، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول ): من تقرب إلى الله عز و جل شبرا تقرب إليه ذراعا ومن تقرب إلى الله ذراعا تقرب إليه باعا ومن أقبل على الله عز و جل ماشيا أقبل الله إليه مهرولا والله أعلى وأجل والله أعلى وأجل والله أعلى وأجل ) رواه الإمام احمد بسند صحيح. و في سنن الترمذي بسند صحيح يقول الله عز وجل : (وإن اقترب إلي شبرا اقتربت منه ذراعا وإن اقترب مني ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) و من رحمة ربنا بنا أنه يبادر إلينا بالخيرات و يعطينا الفرصة تلو الفرصة لا لشيء إلا لأنه رحيم بعباده يريد بهم اليسر و السعادة و الهناء ، ينظر إلينا سبحانه من فوق سبع سموات و هو مستوِ على عرشه فيرانا غرقى في الذنوب فيسبغ علينا رحمته و يعرض علينا توبته : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) . ومن رحمته بنا سبحانه أن جعل لنا مواسم يفيض علينا فيها من وابل المغفرة ما لا يتخيله عقل مسلم فمن فضل الله و منّته على عباده أن جعل لهم في أيام الدهر نفحات يتعرضون لها و يتاجرون فيها مع الله ويفيض عليهم ربهم من فضله و عظيم جوده و كرمه وبره وإحسانه فيحصل لهم من الأجر الجزيل و الخير العميم ما لا يحصيه إلا هو سبحانه فطوبى ثم طوبى لمن تعرض لهذه النفحات و تلك الهبات و ابتهل تلك الفرصة فعن محمد بن مسلمة مرفوعاً : ( إن في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبداً ) روى الطبراني صحيح الجامع . ومن أعظم تلك الفرص أن يبلغ العبد شهر رمضان قال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) قال السعدي : أي: الصوم المفروض عليكم، هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة.فحقيق بشهر، هذا فضله، وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون موسما للعباد . إنها الفرصة الذهبية فلا تضيعها فشمر عن ساعد الجد و ابذل كل ما تستطيع من جهد لتفوز بالأجور الوفيرة و الحسنات الغزيرة و الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، بادر ما دام في العمر بقية بادر ما دمت في زمن الإمكان و ابتهل الفرصة .