أعوام وتلتها أخرى ولم أشاهده ولا مرة واحدة، ولم اسمع عنه خبراً، زميل دراستي في مدرسة الفلاح الابتدائية .. كان مشاكساً داخل حجرات الدراسة وأزقة حارة المظلوم .. مغرماً بالألعاب الشعبية كالكبت والضاع والكبوش والمداوين وركوب الألواح المنصوبة عند مدخل الحارة .. دائماً أشتاق إلى سماع أخباره ، وماذا فعل الزمن به .. ولكن مشاغل الحياة وتبعاتها حالت دون لقائه .. العمل.. النقل .. إيقاع الحياة السريع الذي نعيشه جعلت من مجرد الذكرى محمدة وحيلة على البعد، لنترحم على أيام صبانا.. فقد غدت المدنية والحضارة مظهراً ولباساً مهما يرتديه السواد الأعظم من الناس. نسى البعض أو تناسوا صلة الرحم والتزاور إلا من عصمه الله تبارك وتعالى وتداركه برحمته ليرحم الآخرين. - أعود إلى زميل دراستي الذي أراد الله لي أن ألقاه دون سابق موعد في أحد دكاكين باب مكة حيث يحلو لي التسوق لأعبق رحيق الماضي وأجول بذاتي لأيام مضت لطفولتنا حيث لم نقو على الهوى وتباريحه ولم ندر كنهه ولم تطف بخيالنا مقومات الفكر المحلق المتناسق، نحبو نحو مراتع الصبا بين هزل عابث وجد فيه صرامة الحزم، كل ذلك داخل سياج من الفضيلة والأخلاق الكريمة. كما قلت أراد الله أن ألقاه، وقف مشدوهاً وهو يحملق فيَّ قائلاً: لا أصدق عيني .. أنت .. وإلا أنا غلطان؟ - نفس الملامح، وجهه، وعظام فكه البارز، وإن كانت اللحية التي أرسلها تخفي تلك الكدمة التي كانت في عارض وجهه وفي لحظة ارتسمت تلك الصورة المحببة لصديقي وزميلي أمام عيني، وفي فرح طفولي احتضنته وأنا أصيح: - أيوه أنا .. انت فينك يا راجل؟ -قال: أقولك يا أبومين؟ والله أيام وسنين والدنيا تريد من يعمل ويكد بدون ملل ولا ضجر، وأردف قائلاً: مسؤوليات عمل .. وأسرة .. وأطفال تريد أن تأكل وعلى أن أكد وأكدح سحابة يومي .. تعبت يا أخويا صدقني. - صمت برهة وسرح بعيداً قائلاً: ليتني سمعت كلامك وواصلت تعليمي.. ولكن شقاوة الحارة ورفاق الحي لم يدعوني وشأني ومع ذلك فالحمد لله. - كان موقفاً حرجاً وتذكرت حديثي معه عندما كنا زملاء في المدرسة .. مدرسة الفلاح .. وارتسمت أمامي حارة المظلوم في أيامها تلك. - سألته وأنا أودعه. كيف الأولاد؟ قال وابتسامة باهتة على محياه: وهل تجني من الشوك العنب؟ قلت مواسياً: لكل قاعدة شواذ. قال: وهو يهرول إلى سيارته العتيقة وبيده "زمبيل المقاضي" .. نعم أحدهم في أولى جامعة الآن .. قلت : نعمة وكفى.