لقد كُنَّا في المدرسة الابتدائيّة في المَدينة المُنيرة، تلك البُقعة التي مَرَّت عليها خَطواته -صلَّى الله عليه وبَارك-، إنَّها المَدينة وكَفى، مساحة تُرابيّة، استوعبت حَماقاتي ومُراهقتي، ودراستي وتَدريسي، حتَّى نَفتني -ولا عَجب، فالمَدينة تنفي خُبثها- إلى الرّياض وجُدَّة -بضم الجيم-، حتَّى طَفَقتُ أبحث عَن الرّزق، ومَن مِنَّا لم يَبحث عن رزقه..؟! ولا أُبالغ إذا قُلت: حتَّى رفاقي «الكِلاب»، تَجوس خلال «الحَارَات»، بَحثاً عَن «عَظم»، أو لقيمة سَائغة تَسرُّ الآكلين..! حَسناً.. لنَدخل في الموضوع، أو لِنَقُل كما يَقول أهل الحجاز -عليهم سَحائب الرَّحمة- لنخش في الأمر ونقول: إنَّ الشَّاعر التهامي يَقول: سَمعنَا بالعُجابِ، ومَا سَمعنَا بأنَّ الليثَ مِن قَنْص الغَزال..! حَسناً.. هذا البيت ذكّرني بأيَّام «الحَارة»، أيَّام حَارة «المَصانع»، حين كُنَّا في المدرسة الابتدائيّة، ولم نَزل نُراوغ في «الحضور والغياب»، وكَان «الكيكي» -وهو «عرّاب الفَصل»- يَقول: (يا عجائب يا عجيب.. كيف القمري صاد الذيب)..؟! حقًّا هذا البيت ذكَّرني بطفولةٍ عَرفجيّة «تَائهة» بين الظَّن واليقين.. كيف لا، والحَارة تَضم عتاولة «الحي»، مِن أمثال «الكيكي»، و«جميل عدو البشر»، و«الطُط»، و«أبوكرشة» و«الترتر»، و«الكركر»، و«ياسين قشر السمك».. إلخ هذه السّلسلة غير الذَّهبيّة؛ مِن رواة الجرائم والمُنكرات والمَعاصي.. إنَّها فَترة أحمد الله -جَلَّ وعَزّ- عَلى أن أخرجني مِنها مِن غير حَبسٍ، ولا قيدٍ، ولا جُرمٍ، ولا إدانة..؟! إنَّ المَدينة المُنيرة في أيَّامنا -أيَّام السبعينيّات والثمانينيّات- كانت أيَّام جَرائم ومَخاوف، واسألوا -إن شئتم- صديقيَّ العَم «فلاح الجهني» وابنه «نايف»، فهُمَا مِن الصَّادقين، اللذين لا يخلفان السَّائل حيثُ أتى..؟! إنَّ الخوفَ مُستقرٌّ في الفُؤاد، رَغم أنَّ الحَارات –خاصَّة في الحجاز- كانت عبارة عن تكتُّلات، ومَن فَاز بتَكتُّل فَقد فَاز فَوزاً عَظيماً..! يا قوم.. -وخاصَّة الجيل الجديد- احمدوا الله أنَّكم خَرجتم في هَذا الجيل، جيل الهدوء والأدب والسَّماحة، وإلَّا كُنتم مِثلنا تَرتجفون خَوفاً، وتَنامون مِثل الذِّئب، حيثُ يَنام بإحدى مُقلتيه، ويَتّقي بأُخرى المَنَايا.. فهو يَقظان نائم..! حَسناً.. مَاذا بَقي..؟! بَقي القَول: إنَّ الحَارات بمَذاقها «الأخوي»، وطَعمها «المشكلجي»، ذَهَبَت إلى غير رَجعة، ولكن ما البَديل..؟!، إنَّه بَديلٌ تَعيس، ووَافدٌ غَليس، حيثُ تَرى الأولاد –صِغار السِّن- وهم يَجلسون أمام ما يُسمَّى «التّلفاز»، أو «التّلفزيون»، أو لِنَقُل «تَالف العيون»، لا هَمَّ لهم إلَّا أكل البَطاطس المغتسلة بمَذاق الكَاتشب.. ومتى جَاءت الدّعايات، استغلُّوا الفُرصة للذّهاب إلى دورات المياه لقضاء حاجتهم.. وهَكذا حياة، لا تُولِّد إلَّا الغَباء، ووَفرة الشّحوم، ودَلاخة العقول، ليَظهر الوَلد وكأنَّه «بَطَّة» غَارقة في مياه الكَسَل..!. [email protected]