يعيش الإنسان في المجتمعات المتقدمة حضاريا مطمئن البال مستريح الخاطر من كل ما يُكدر صفو حياته ومستقبل أبنائه وحتى إنتاجه. لأن الحياة هناك تكفل للإنسان حقوقه وتميزه وتقدر عطاءه وفكره، أما في المجتمعات البسيطة في عالمنا الثالث فهي تتصف بالغوغائية والفوضوية واللامنهجية. تضيع حقوق الإنسان وتندثر مواهبه وهذا ما شاهدناه بالفعل في شراء الأصوات بالطرق الملتوية التي تدل على أننا أمة تحافظ على أسلوب العشوائية والبدائية ولا ترغب في النهوض بمستواها الحضاري، وكنت أحسب أن غرفة جدة تتصف بالرقي في نهجها وتعاملها لأنها تضم بين جدرانها أناسا أكثر ثقافة وإدراكا بعيدين عن البيروقراطية الإدارية والفساد بأنواعه فهم أناسٌ لهم من الخبرة والنزاهة واللباقة ما يميزهم عن غيرهم، وكم نحن بدائيون عندما نشتري الأصوات لكي نفوز بلقب أو وظيفة أو صفة تميزنا أو تكسبنا دخلاً آخر أو تقديراً اجتماعيّاً. ويكفينا ما لحق بالقيم والمبادئ والنزاهة والمصداقية، فهناك شاعرٌ (بفلوسه) وهناك كاتب أيضاً (بفلوسه) وآخر أكاديمي يحمل شهادة الدكتوراه أيضاً (بفلوسه) وعضو مجلس الغرفة هو الآخر (بفلوسه). حتى متى نظل أمةً تبحث عن المجد وصهوة العلياء لا بجهودها فحسب أو علمها أو نزاهتها ولكن من الشراء المباشر في السوق السوداء؟ نحنُ نؤمن بأن هذه الأساليب تعيق التقدم وتضيع حقوق البارعين والمبدعين والموهوبين وتنتج لنا أناساً لا نعرف عن حقيقة تعليمهم أو أعمالهم وإنتاجهم، ثم هي في نفس الوقت تُبيح المحظورات الفوضوية في المجتمع وتُساعد على تبادل المصالح والمحسوبيات وتُدمر القيم الاجتماعية والمبادئ الإنسانية وتشيع الفساد بهضم حقوق القادرين على العطاء! ويحضرني هنا موقف يدل على الفوضوية وهو عندما كُنتُ في القنصلية البريطانية بجدة أطلب الفيزا لزيارة بريطانيا ونحنُ في طابور الانتظار إذ بأحد منا يتقدم الآخرين ليصل إلى شباك الفيز ولكن الذي حصل هو أن هناك من هم في الطابور ارتفعت أصواتهم وتعالت معربين عن تضايقهم وغضبهم لما حصل..والأسوأ من ذلك ما سمعته من رجل الشباك بالسفارة: (يقول إن هذا الرجل لم يتعلم النظام ولا يحترم حقوق الآخرين فاتركوه إنه لم يتعود على النظام في بلاده). يقول الشاعر: قل لي بربك ماذا ينفعُ المالُ إن لم يزيِّنه إحسانٌ وآمالُ نحن في بلادنا للأسف جعلنا من المال كل شيء في حياتنا حتى أنه أصبح يُكمل النقص في أخلاقنا ويُعلي شأن العاجز منا ويحرم القادرين والمبرزين والمبدعين في أعمالهم، كما أن هذه المجالس البلدية كانت في عهد أجدادنا قبل ما يقارب الأربعين أو الخمسين عاماً مضت أكثر نزاهة ومناعة وموضوعية في اختيار الرجل المناسب فلم نسمع ولم نشاهد شراء الأصوات أو أسلوب الفزعة أو التكتل، ولكن الكل يسعى لمصلحة البلاد. إن ما وصلنا إليه اليوم يدعونا إلى وقفة تأمل ومصارحة مع أنفسنا وضمائرنا كما يتطلب المكاشفة والشفافية مع النفس قبل الآخرين لأن أسلوب المقايضة المالية لا يزيدنا سوى ضياعاً وغوغائية وعفوية لا تنم عن حبنا لأوطاننا أو تنظيم أوضاعنا فحب الظهور وتملك الأدوار جعل من بعضنا يسعى بكل جهد للارتقاء على ظهور الموهوبين والمبدعين ولو كان يملك أكثر من دور أو وظيفة في المجتمع فهو ما زال يسعى بكل جهد ليحرم الكثير من القادرين والعاطلين وأصحاب الحقوق. يقول شاعرٌ آخر: لا ترجع النفس عن عيبها ما لم يكن منها لها واعظُ وحسبنا أن الأيام يتعظ بها اللبيب.