ومع منتصف الليل، واكتمال البدر، واعتدال الطقس، وأريج الزهور والورود، رصت الكراسي أمام منصة خشبية تقارب أبعادها أربعة في ستة أمتار، صعد عليها طاقم الموسيقى والرقص: عازفان على الغيتار، عازفان على الطبلة، مغنٍّ، اتخذ والد رشا كرسيه بجانب المغني ليشارك في صفقات الإيقاع،واختار لنا مضيفنا الصف الأول أمام المسرح، وكانت رشا على جانبي الأيمن ووالدتها على جانبي الأيسر ليترجما لي ما تقوله الأغاني التي تلقى بأسبانية الغجر. وبدأ العرض بعزف بديع على الغيتار لمقطع من مقطوعة أرانخويث، وهذا النوع من الأداء أخذ عزه واشتهر في عصر المدجنين، وتقريبا في القرن الثالث عشر، حيث عم الظلم والاضطهاد لذوي الأصول العربية ولمن تنصر من المسلمين ويشك في صحة تنصرهم، فكان هذا الشكل من الغناء يؤديه من جار عليهم الزمن وامتهنوا الخدمة والفلاحة في قصور الأسياد الجدد، يقومون به وهم محتفظين بسمة العزة والإباء ليقدموا شكواهما، ويجبروا سيد القصر على سماع ما لديهم بغنائهم الجهوري وبضربات غيتارهم ووقع أقدامهم على الأرض. ومع اقتراب الساعة من الثالثة صباحا انفض الحفل وغادر الزوار وأخذ كل منا غرفته لأخذ قسط من النوم، فالفجر على الأبواب، والمزرعة تغري من فيها بالإبكار لتناول الفطور ومن ثم التجول داخل المدينة القديمة وزيارة المسجد الكبير، ومن بعد تناول وجبة الغداء في مطعم مشهور بجودة أسماكه على ضفاف نهر تاجه. وكان لنا ذلك كله، وسعدت بزيارة المسجد الكبير. لاحظت والدة رشا ما انتابني من رهبة عند عبور بوابة المسجد ومن ألم وأنا أطالع الكنائس الثلاث التي حشرت حشرا داخله، فكانت مواساتها لي بقولها أن ما تراه هو من الأمور المؤسفة والغير مقبولة على الإطلاق، إنه اعتداء على بيوت الله وعلى الحضارة وعلى الإبداع.وكان لنا حديث مع مضيفنا ومن شاركنا وجبة الغداء تناولنا فيه ماضي هذه المدينة، حيث اهتم الأمويون في بناء قرطبة وجذب السكان لها فبلغ عددهم حسب تقدير بعض المؤرخين المليوني نسمة، وشيد لهم ما يزيد عن ألف وستمائة مسجد من اشهرها المسجد الجامع الذي لم يكن له نظير في المدن الإسلامية،وتجاوز عدد حماماتها الستمائة، وفيها مائتا ألف دار، وثمانون ألف قصر، منها قصر دمشق الذي شيده الأمويون ليحاكوا به قصورهم في بلاد الشام،، كانت شوارعها مبلطة، وترفع قماماتها، وتنار شوارعها ليلاً بالمصابيح، ويستضئ الناس بسروجها ثلاثة فراسخ لا ينقطع عنهم الضوء، وسألتني رشا عما يعنيه الفرسخ فأجبتها بأنه مقياس للطول والفرسخ الواحد يعادل ثلاثة أميال إنجليزية أي حوالي الخمسة كيلومترات، فصدرت عنها شهقة تعجب أتبعتها بالقول أن الطرق المضاءة وقتها كانت تقارب الخمسة عشرة كيلو مترا، شيء رائع، والتفتت إلى الأستاذة كارمن لتسمع منها وصف الشعراء الأقدمين لقرطبتهم، فأنشدتها قول أحدهم: بأربع فاقت الأمصار قرطبة/منهن قنطرة الوادي وجامعها هاتان ثنتان والزهراء ثالثة/والعلم أعظم شيء وهو رابعها. وقول آخر: وليس في غيرها بالعيش منتفع ولا تقوم بحق الأنس صهباء وكيف لا يذهب الأبصار رونقها وكل روض بها في الوشى صنعاء أنهارها فضة، والمسك تربتها والخز روضتها والدر حصباء وللهواء بها لطف يرق به من لا يرق وتبدو منه أهواء وتضيف الأستاذة كارمن القول بأن قرطبي ذاك العصر تفننوا في أنواع الطعام و الغناء و الطرب، وجل الفضل في ذلك يعود للموسيقي العربي زرياب الذي أدخل العود إلى الأندلس ونشر موسيقى المشرق ولحن أجمل القصائد لتغنيها أعذب الأصوات فتضيف لجمال الطبيعية متعة العيش في قرطبة بعد أن أمتعهم بابتكاراته في عالم الطعام و اللباس، فلكل فصل نوع من الطعام و اللباس، ولكل مجلس آداب و تقاليد، و لكل حفلة طرب غناء بمختلف الإلحان، ولا يزال للحديث بقية بعون الله.