يظل الإنسان منّا رهين حواسه ومشاعره فبعضها قد يكونُ له نصيب في التحكم فيها وإخفائها أو تناسيها أو التعويض عنها بلحظات تخفف عنه آلامه ومشاعره إما بتغيير المكان أو الزمان أو حتى السفر لبلدٍ آخر. وأحياناً لمحاولة تجديد خياله وواقعه ومشاعره. هذا إذا كان الإنسان منّا يستطيع ذلك أصلاً. أما في حالاتٍ كثيرة فقد يعجز الإنسان عن العمل أو حتى التفكير وتظهر عليه علامات الارتباك والحيرة والعجز وهنا يُحاول قدر الإمكان الاختفاء عن أعين الآخرين إما لعدم إظهار هذا القلق وإزعاج غيره أو حتى يظهر بمظهر الجلُود القويّ الذي لا تزعزعه جبال. كما يقول المثل: (يا جبل ما يهزك ريح)، فمهما حاول الإنسان أن يكتم مشاعره السارّة أو المؤلمة إلا أنها تُحاول وبقوّة أن تظهر على ملامحه أو في فلتات لسانه في ألفاظه أو حتى في سلوكه وخاصةً في عصرنا.. عصر العولمة، وأنسبُ هذه الطرق أن نُسارع جادين لمحاولة التخلص من هذه المتاعب المرهقة للنفس بحل المشكلة جذرياً التي تشغل أفكارنا حلاً إيجابياً قبل تطورها. كما أنني أعتقد جازماً أن القلق والاكتئاب هو لُب كل متاعبنا النفسية في هذا العصر حيث يُعاني مجتمعنا منها فيدفع الكثير إلى مواقف محرجة أحياناً وإلى أن يتصرف فيها بصورٍ تزعجه وتزعج الآخرين أحياناً. كما نجد أن مرض القلق أصبح من الأمراض التي درجت على قائمة منظمة الصحة العالمية كواحد من أكثر الأمراض النفسية خطراً على صحة الإنسان، فهنا يصبح القلق دافعاً إلى أن يسلك الإنسان بصورة لا يحس فيها ولا يُدرك نفسه أو حتى الآخرين بجواره فيخرج عن كونه وكينونته وقد رأينا الكثير من السلوكيات المسيئة للحياء والكرامة والإنسانية والقيم الدينية تظهر في مجتمعنا على شكل هفواتٍ فاضحة كما رأينا أحد الأفراد اليوم في مطار الملك خالد الدولي بالرياض يخرج علينا بسلوكٍ غريبٍ مبتذل دون ملابس تستره ودون تفكيرٍ يمنعه أو مبالاة أو سيطرة على سلوكه، كما حدث ذلك أيضاً في مدينة مكة وفي الحرم الشريف. فهذا الشعور باليأس يضعف الإنسان ويفسد على المرء حياته ويجعله ريشة في مهب الريح، فمن طبيعة النفس البشرية أنها تحاول أكثر من مرّة وبصورٍ مختلفة الجوانب السيطرة على هذا اليأس والسلوك ومُحاولة إخفائه في أحيانٍ كثيرة إلا أن القلق والاضطراب وضيقُ ذات اليد يجعلُ الإنسانُ يخرج عن طوره ويُفكر في مثل هذه السلوكيات إما بالانتحار أو اللجوء إلى المخدرات، أو القتل أحياناً بدون مبرر. فإذا وصل الإنسان إلى مثل هذه الحالة فإنه لا شك يحتاج إلى العطف والرعاية والعلاج لا بالمشاهدة والدُعاء له وإطلاق التبريرات غير المقنعة، وهذه التصرفات غير سويّة قد يقع فيها الكثير منّا من عُقلاء القوم وسادته إذا ما تخللت حياتهم محطات اليأس والضغوط الاجتماعية والأسرية والقلق والاكتئاب والاضطراب حتى يصل إلى مرحلة التخلّي عن الحياء وعن الإنسانية فهموم الحياة وقسوة العيش مع ضعف تحمل الإنسان وكثرة مسئولياته وإعيائه أحياناً وقلة إيمانه تؤدي به في أحيانٍ كثيرة إلى مثل هذا السلوك أو أكثر. فكان العُقلاء من القدماء يقولون: (العقلُ لولوه) كناية عن صغره فإذا تحرك من مكانه ضاع الإنسان وضاعت حياته ومستقبله. فضغوط الحياة اليوم وقلة الإمكانيات والفُرص الوظيفية أثرت في حياة الإنسان في عصرنا الحاضر أكثر من أي وقتٍ مضى. فعلينا دراسة سلوكنا وقوّة احتمالنا وحلّ مشاكلنا أولاً بأول بطرقٍ علمية ودينية ونفسية ومادية، لأن العصر اليوم عصر مادي بحت يخلو من القيم والمبادئ حتى قوّة الإيمان. فالمادة أصبحت اليوم تمثل تحدٍ كبير للإنسان ومعيشته ودخله ومن المؤسف حقاً أن التكافل والتراحم الاجتماعي قلّ بيننا وتضاءلت حدوده وإمكاناته. فكان التكافل الإسلامي ولا أقول الاجتماعي له دور أساسي في حياة من سبقونا من الأمم الإسلامية وخاصة في بلادنا الطيبة. أما اليوم فأصبح المريض لا يتلقى الرعاية الأسرية والمجتمعية المسبقة وأصبح التفكك الأسري والطلاق سمة من سمات مجتمعنا فلا يخضع لدراسة حالته من جهة أقربائه قبل أن يصل سلوكه إلى ما وصل إليه بل يُوجه المريض نفسياً مباشرةً إلى مستودعات المستشفيات أو أو دور الرعاية أو السجون دون أدنى مسئولية إنسانية أو نظرة رحمة أو تكافل أو حتى تقاسم الأجر والمثوبة والرحمة فهي بعيدة ومجردة من أجسامنا وخواطرنا. فكم يعتريني الألم والحزن والبؤس وضيق الخاطر عندما أسمع أو أقرأ مثل هذه الحالات الخارجة عن إرادة الإنسان وقواه العقلية فمجتمعنا تميّز بالطيبة والتعاون وصفاء النية فلابد أن نخرج من قوقعتنا وخاصةً أغنيائنا وميسوري الحال للمساهمة في تحمل مسئولياتهم الاجتماعية تجاه أبناء مجتمعاتهم ودراسة أحوالهم وأحوال أسرهم ومد يد العون والمساعدة لهم، فلا نمر عليها مرور الكرام أو نشاهدها ونغض البصر عنها كأنها لم تكن ونكتفي بالدعاء لهم. فهذه ليست أول حالة تحدث في بلادنا ولكنها كثيرة هي تلك الحالات التي ليس لنا حولٌ ولا قوة في حدوثها أو تكرارها. هذا وهناك من يبرر هذه الأعمال ويكتفي بالتبرير بقوله: (مريض نفسياً) أو (مختل عقلياً) أو (متعاطي مخدرات) وهذا القول للأسف تردده الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى، دون دراسة مثل هذه الظواهر النفسية المرضية الاجتماعية وأسباب حدوثها وتكرارها في مدننا فهذه بلا شك تنبؤ عن انهيار اجتماعي خطير في أوساط شبابنا فلا داعي لإكسابها صفة اللامسئولية أو المرضية. ولنا في أسلافنا قدوّة لأن نتسابق لتقديم العون والمساعدة. فما يؤرقني أن أشاهد شباب في عمر الزهور ينتهي بهم المطاف في حياتهم للمستشفيات أو السجون أو الموت المحقق. والشواهد أكثر من أن تعد ومؤسفة فهناك أب يقتل ابنه وابن يحرق والدته وسائق يقتل امرأة ويأخذ مالها، وهناك اغتصاب واختطاف وانتهاك أعراض. كلها عوامل اجتماعية تنبئ عن مشاكل قد نعجز مستقبلاً عن دراستها أو تحديد أطرها إذا لم نتداركها بالدراسة والتحليل والتوجيه وإزالة مسبباتها في الوقت المناسب.