لم يكن مستغرباً تركيز قادة الدول العشرين في أعراض مرض الكارثة المالية - الاقتصادية - العولمية التي يعيشها العالم في الوقت الحاضر. فالمهم بالنسبة إلى القادة السياسيين التعامل مع الحاضر ومواجهة المؤقت المستعجل والتأكيد لناخبيهم أو مواطنيهم أنهم لا يقفون مكتوفي الأيادي أمام المحن. وهذا يفسر اقتصار قرارات قمة العشرين على ضخ مزيد من المال لإنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة والدول المتضررة وعلى محاولة وضع لوائح وأنظمة دولية للتقليل من التلاعبات بأسواق المال والاستثمار والائتمان مستقبلاً. وهو يفسر ايضاً السكوت المفجع لكل القادة عن طرح التساؤلات حول الأسباب العميقة الفكرية والقيمية والسياسية والاقتصادية التي قادت إلى وصول العالم إلى هذه الأزمة البالغة الخطورة والتعقيد. ولكن من حسن حظ البشرية أنها لم تعتمد في أغلب الأحوال على القادة السياسيين لفك طلاسم ما فعله الماضي بالحاضر ولا استشراف ما سيفعله الحاضر بالمستقبل. ومن هنا الأهمية اللافتة لما يطرحه المفكرون والمحللون في العالم كله من أسئلة خارج إطار المال وخارج إطار الترقيعات والمسكنات المؤقتة لتحسين القوانين والأنظمة الضابطة لعالم المال، التي في جميع الأحوال لن يعدم الفاسدون والسارقون الحيلة للالتفاف عليها. لقد ركز أولئك المفكرون والمحللون في طرح سؤال اعتبروه مفصليا، وهو سؤال الأخلاق، وذلك على النحو التالي: هل الأسس التي قامت عليها حداثة عصر الأنوار الأوروبية عبر أكثر من مائتي عام، والأسس التي قامت عليها ايديولوجية ما بعد الحداثة طوال القرن الماضي.. هل تلك الأسس أسهمت في إفراغ عالم البشر من القيم الأخلاقية ومن إملاءات الضمير، التي سبب غيابها تجرؤ الكثير من الأفراد والمؤسسات والتجمعات على ممارسة كل الرذائل والخفة الأخلاقية التي حكمت عوالم البنوك وشركات الاستثمار وأنظمة الإقراض والائتمان وبورصات العالم؟ ذلك أن الممارسات الخاطئة التي أدت إلى الكارثة لم تكن مقتصرة على قطاع معين أو على مجموعات محدودة وإنما تبين أنها - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - شملت العالم كله. فعندما تنتشر ثقافة طاغية، كثقافة الغرب، من خلال شبكة تواصلية مترامية الأطراف (السينما، الأقراص، الكمبيوتر، الإنترنت، إلخ) فان أسسها الفكرية وقيمها وممارساتها تصبح مقياساً وميزاناً للعالم كله. فالعقلانية التي طرحت كبديل للخرافات والممارسات غير العقلانية انتهت إلى أن تصبح صنماً يعبد لذاته ودكتاتوراً لا يخضع لأي شيء خارج سلطانه، بما في ذلك التعاليم السماوية والقيم الإنسانية والفضائل التي توافقت عليها البشرية عبر القرون. وكانت النتيجة أن فصلت العلوم، وخصوصاً العلوم الطبيعية، والتكنولوجيا، فصلا تاما عن الأخلاق، وأصبحت العلوم ليست طريقاً لفهم الطبيعة وإغنائها وإنما طريقاً للسيطرة عليها وإخضاعها لنزوات الإنسان. ولقد قاد تحكيم العقل وحده إلى أن تنخر روح الحداثة مقولة ان الغاية تبرر الواسطة. ومن هنا كان ادعاء قادة من مثل هتلر أو ستالين بأن غاية أنظمتهم هي تحرير الإنسان حتى لو استعملت أحط وأقسى الوسائل لتحقيق تلك الغاية. أما فكرة التقدم في الحداثة فإنها بدلاً من أن تكون ارتفاعا مستمرا في سمو الإنسان الروحي والاجتماعي أصبحت نموا لا متناهيا في الثروات المادية الاستهلاكية والتغيرات التكنولوجية المذهلة التي أصبحت هي الأخرى غاية في ذاتها. أما فكرة الفردية، التي كانت في أصلها تحرير الإنسان من بعض ممارسات المجتمع الاستبدادية، فإنها هي الأخرى، أصبحت مدخلاً للاستفراد بالإنسان من قبل آلة الإعلان وآلة الدفع نحو الاستهلاك المجنون النهم، وأصبحت وسيلة لإدخال المجتمعات في حالة الفوضى وعدم الانضباط في ممارسة الحرية وفي العلاقات الاجتماعية. وأما مبدأ النسبية الذي يجب أن يحكم الحياة الإنسانية فانه انقلب إلى تبرير دائم انتهازي لكسر كل الأنظمة وللخروج على كل ما هو متوازن وللاستهزاء بكل قيمة وفضيلة إنسانية. إن القائمة طويلة وهي تشير إلى أن جذور الأزمة المالية - الاقتصادية الحالية تكمن في أزمة الحداثة وما بعد الحداثة وعدم قدرتهما على إبعاد الإنسان عن الكوارث، وفي قلب كل ذلك يقبع موضوع الأخلاق الفردي والمجتمعي، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، الذي ينتظر الحل. أخبار الخليج البحرينية