إنها قصة حقيقية لا تقبل المخادعة ولا الكذب فالمريض لا يساوم على صحته ولا يذهب إلا لمن يرى فيه الكفاءة والخبرة المجربة، لقد تعاملت مع أحد هذه المستوصفات في جدة من خلال أطبائه والذين لابد أن تبادر بحجز رقم مبكر لديهم، والشيء الذي أحزنني أن أرى ما آلت إليه الأمور في ظل تعنت وإصرار صاحبه في المضي قدما في تصرفات هوجاء تسيء إلى المستوصف. دخلت للكشف ذات يوم فوجدت الحزن قد خيم على كل أطبائه والعاملين فيه وكأنهم قد أصيبوا بفيروس الكآبة أو بكتريا النكد، فعندما دخلت على الطبيب المعالج وجدته واضعا يده على خده وقد ذهب في رحلة بعيدة في أعماق الإحباط، وعدم التركيز. شرحت له حالتي عدة مرات حتى علم بمكامن المرض عندي، لقد وقع في نفسي أن في الأمر شيئاً، فتطفلت بسؤال له، ولأخلاقيات المهنة العالية رد عليّ بأدب قائلا: أعذرني فالأمر هنا لا يحتمل.. لقد جاءني صاحب المنزل هنا وقال لي كلاما قد آذى مشاعري وأنا طبيب صاحب رسالة عظيمة لها أخلاقياتها ومظهرها ورونقها اللائق، ولكن الرجل صاحب حق فهو يطالب بأجرة السكن الذي لم أدفعه لعدة أشهر. فقلت له: ولم لا تدفع له؟ وكان الرد أصعب من أن أتوقع. قال من أين فنحن لم نصرف رواتبنا منذ نهاية العام الماضي. فأخذتني الدهشة، فقلت له إذن لم أنت في العمل حتى الآن ولماذا لم تستقل؟. فكان الرد أصعب من الأول بكثير. قال: لقد فعلت ذلك منذ عام تقريبا ولكننا لم نستطع الفكاك من صاحب العمل فلا هو يريد أن يصرف رواتبنا ولا يريد أن يقبل استقالتنا. فسألته لقد قلت للتو: "ولكننا بصيغة الجمع" قال: لأن أكثرنا طلب الاستقالة. بل لو علمت أن أكثر من عشرة أطباء قدموا استقالاتهم دفعة واحدة في الماضي وقد وافق عليها جميعا، وعندما قيل له إن هذا الأمر قد يضر بالعمل وبالمراجعين الذين سوف يقل عددهم. قال لنا بكل أسف "لا يهم فالناس تأتي على اسمي" - وحسب علمي أن تلك المقولة كقولة قارون بما سجله القرآن الكريم عندما سئل عن ماله العظيم قال: "لقد أوتيته على علم عندي". وكانت النتيجة أن خسف الله به وبداره وماله الأرض. وهل الرزق يأتي "باللقب" الموجود على اللافتة؟ إن الخالق هو الرازق ولا كلام آخر في الرزق، لقد انتهى الله من رزقنا في الماضي قبل أن نولد: "الذي خلقكم ثم رزقكم" وهل اطلع هذا الإنسان على اللوح المحفوظ فعلم أن الألقاب والأسماء تأتي بالرزق - نستغفر الله من قوله – وما أعلمه يقينا أن الناس تأتي إلى الطبيب المتميز في عمله – وأيضا هذه موهبة وقدرة أودعها الله في بعض خلقه. وتركته في يأسه وذهبت إلى الطبيب الصيدلي فوجدته أكثر مرارة منه، ثم انعكس الأمر على شخصي فلم استطع الحركة بسبب حرارتي المرتفعة وفي حاجة سريعة وماسة للعلاج، وإذ بالصيدلي يطلب مني أن أصرف العلاج من صيدلية أخرى بنفس الحي تترأف بحال هذا المستوصف الكئيب، أو أشتريه على حسابي وأحضر له فاتورة لصرفها منه لأن الصيدلية كما رأيت بأم عيني ليست فيها إلا القليل القليل من الدواء وكأنك في محل بقالة متواضع وليس بأرففه ما يغني من جوع .. هذه ليست قصة من نسج الخيال، بل هي حالة يندى لها الجبين خجلا وتسيل منها النفس مرارة، فما بال أصحاب النعم وقد أصابهم ما أصابهم من الجشع والتعدي على الحقوق، وأين منهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "اعط الأجير حقه قبل أن يجف عرقه"، كما قال: "اتقوا الشح فقد أهلك من قبلكم"، وفي الحديث القدسي: "يقول الله عز وجل: أَنفق أُنفق. عليك ولا ترد فيشتد عليك الطلب. إن في السماء بابًا مفتوحا ينزل الله فيه رزق كل امرئ بقدر نفقته أو صدقته ونيته فمن قلل قلل الله له ومن كثر كثر الله له". إن مهنة الطب جديرة بالاحترام وليس الازدراء، رسالة عظيمة لا يحق للآخرين العبث معها، فكيف لطبيب أن يعيش وأسرته عدة أشهر دون مال ومن أين يدفع إيجار مسكنه وملبسه ومطعمه وتعليم أولاده. هل يستطيع صاحب العمل أن يعيش يوما واحدا بلا طعام؟ وهل يتحمل إهانة صاحب العقار الذي يقطنه؟ وهل يتحمل ألا يجد ثمن بنزين سيارته التي ستوصله إلى عمله؟ فلماذا إذن يرضاه على غيره من البشر؟ يا وزارة الصحة أناشدكم الله ألا تتركوا الحبل على الغارب فالطب مهنة حساسة جدا وراقية، وتحتاج إلى انضباط وعدم المس بحقوق الطبيب حتى يؤدي عمله على الوجه الأكمل حيث إن خطأ الطبيب خطير. وعلمي بوزارة الصحة أنها أكثر الوزارات نشاطا في أداء مهامها لحساسية مهنة الطب وخطورتها. ولها سبق في الضرب على أيدي المتلاعبين وهى لا ترضى بغير الحق بديلا.