أي زائر حتما يفتتن بصنعاء إذ إن ثمة علاقة روحية تبثها المدينة للجميع وبدون استثناء .. اللافت للانتباه تلك المنارات البيضاء التي تطعن كبد السماء علوا شاهقاً يصدح منها نداء الأيمان .. اليمنيون بطبعهم بسطاء عفويون .. سجية تعودوا عليها ، لم يقرؤوها في كتب المطالعة أو يحفظوها من كتب المحفوظات.. بل فطرة السكان اليمنيين والأصالة التي توارثوها كابراً عن كابر .. في بهو فندق سبأ .. الذي يحمل اسم إحدى مملكات اليمن القديمة .. ينداح في الذاكرة أشهر الملكات على الأرض قاطبة وهي بلقيس .. لذا لم ننفصل عن التاريخ نتهجاه في كل ملمح .. عمارة ، وجه ، مآذنه ، جبل ، قلعة ، وغيرها .. والتقينا في بهو الفندق بعدد من المثقفين اليمنيين ومن بينهم الروائي والشاعر النابه والإعلامي المتميز محمد القعود .. والروائي منير طلال يحيى صاحب رواية طريق البخور (رواية تاريخية عن الحملة الرومانية على اليمن ) وبعد حديث اقتصر في بداية الأمر على الترحيب بجميع أعضاء الوفد .. انساق الحديث تلقائيا إلى يمن التاريخ والحضارة مؤكدين المشرفين على أمور الضيافة بأن ثمة سيارات مهيأة لمن يريد أن يدخل أعماق التاريخ لتأخذنا أقدامنا نحو الحافلة المتوثبة للسير .. لنتجه إلى بوابة اليمن . يقول أحد المرشدين بأن صنعاء بنيت على سفح جبل نُقُم كان يحيط بها سور يبلغ طوله خمسة أميال يعود إلى العهد السبئي مبني من الحجر والطين والجص وله سبعة أبواب (باب غمدان ، دمشق ، الشيخة ، خندق الأعلى ، خندق الأسفل ، نصر ، وأخيراً باب شرعة ) وقد تهدم السور وأعيد بناؤه مما يدل على الزمن السحيق لعمر المدينة المديد . وباب اليمن أحد الأبواب الشهيرة كان يلج منه غرباء المدينة نهارا ويقفل ليلاً .. أما الآن أصبح الباب مزارا سياحياً يتميز بجمال التصميم وسماكة المداميك بل أصبح قصة يحكى للأجيال ما كانت عليه العاصمة عبر حقب زمنية من قلاقل وخوف وأساليب دفاعية وحماية..عند الولوج من الباب يصافح وجه الزائر باحة متسعة تعج بالباعة والمشترين من اليمنيين أنفسهم وكذلك السياح خصوصاً القادمين من الدول الأوروبية والشرق أسيويين أنواع شتى من السلع ( البن اليمني ، الملابس التقليدية ، الصناعات الحرفية ، الجواهر اليمنية ) وعند التغلغل في داخل صنعاء القديمة يجد الزائر طرقات متفرعة تفضي إلى أسواق الحدادة ، النجارة ، الكوافي ، البز ، الحب ، الخبز ، السمن ، القات ، المصباغة سوق الفضة ، الزبيب ، النظارة لبيع الحناء ، والسليط ، القاز وسوق النحاسيات ، سوق الملح ، سوق البقر ، والحطب ,وغيرها.. يتوسط المدينة القديمة سمسرة النحاسيين وكانت تسمى خان التركي والمبنى في السابق عبارة عن نزل لغرباء المدينة يحطون رحالهم من جمال وحمير وخيول ويبيتون ليلتهم بها حتى تفتح أبواب المدينة في الصباح . أما الآن تحولت إلى مكان لبيع المنتوجات اليمنية من فضيات وجواهر وملابس تقليدية وهدايا وأسلحة بيضاء كالجنابي والقديمات اليمنية ، أثناء تجوالنا صعدنا فوق سقف مبنى سمسرة النحاسيين لنشاهد المدينة القديمة برز أمام ناظرينا منارات لمساجد قديمة قال أحد المرشدين : بأن عمر المسجد يزيد عن 1423 سنة وقد بني بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم في العام السادس للهجرة ، واختلف المؤرخون في من قام بتأسيسه فقيل الصحابي الجليل معاذ بن جبل وقيل الصحابي وبر بن يحنس الأنصاري . حرصنا على أداء صلاة الظهر في المسجد والذي كان يعج بحلقات تحفيظ القرآن الكريم ودروس لتعليم الأطفال القراءة والكتابة وعرفنا بأن صنعاء تحتضن مايزيد عن مائتين وخمسين مسجداً وبعد تجوالنا .. ألمح لنا المرشد إلى مكان يعتقد بأنه مكان قصر غمدان والذي امتلأت به كتب التاريخ وصفا غرائبيا للفن المعماري القديم إلى أن المكان أصبح أطلالا .. وحل محله حماما ببخار الماء أقامه العثمانيون أثناء سيطرتهم على اليمن وسحبتنا خطواتنا إلى مكان يطلق عليه اليمنيون قليس وهو المكان الذي يعتقد بأن أبرهة الحبشي بناه ليصرف أنظار العرب عن الحج إلى الكعبة المشرفة وتحولت كنيسة القليس إلى مزبلة إذ ينبعث منها روائح كريهة ساعة اقترابنا منها مما عجلنا الفرار من قربها .. متذكرين القصة التي وردت في القرآن الكريم وما آل إليه أبرهة الحبشي وأتباعه من هزيمة مريرة بفعل طيور صغيرة تحمل النار لتقع على رؤوسهم لتجعلهم كعصف مأكول لتروى القصة للأجيال المتعاقبة إلى أبد الآبدين ..( يتبع ) [email protected]