الإصلاح في اللغة :ضد الفساد و في اصطلاح الفكر الإسلامي هو عنوان الإسلام الاظهر الذي عرف به منذ آدم عليه السلام ذلك أن المتتبع لجزئيات الشريعة وأدلتها التفصيلية عبر مسيرتها الزمنية يجد أن شرعة الله ما وضعت إلا لتحقيق مصالح المكلفين وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام: «ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك» ثم قال «ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لعلمنا أن الله امر بكل خير دقه وجله وزجر عن كل شر دقه وجله فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح» قواعد الاحكام 641. ومن ثم نستطيع تعريف الإصلاح بأنه «تغيير واقع العباد بما يحفظ مصالحهم في الدارين على نحو ما جاءت به المقاصد الشرعية»، ما هي مقومات التغيير الحضاري في الإسلام: أولا: مراعاة سنة التدرج ولا شك ان غياب هذا المبدأ عن دعوات الاصلاح في كثير من البلدان دفع كثيرا من المطالبين بهذه الدعوات إلى الحماسة الملتهبة لتحقيق الاصلاح باسلوب الطفرة والقفزات المتعجلة وليس باسلوب التدرج الحكيم مستبعدين عن تصورهم سنة الله في الخلق فتورطوا في أعمال متعجلة اراقوا بها دماء معصومة واهدروا بها اموالا محفوظة وغاب عن هؤلاء المتحمسين لدعوات الاصلاح أن الله تعالى أنزل للناس تشريعه على نحو متدرج يلائم مراحل تطورهم الارتقائي متدرجا تدرجا تكامليا متناسيا أيضا أن التكليف والتطبيق يتطور نموًا وضعفاً، تقدمًا وتراجعًا، بحسب الاستطاعات وأقدار التدين.. فأقدار التدين والابتلاءات لا تتجمد على حالة واحدة، ولا تتوقف عند حدٍ. فإذا ارتقت أقدار التدين ونمت الاستطاعات نما التكليف واتسع حتى يصل مرحلة الكمال والاكتمال.. وإذا تراجع التدين وانحلت العزائم وقلّت الاستطاعات، استدعى ذلك ما يقابله من التكليف وهكذا. دل على ذلك المعنى نزول القرآن منجما وتدرج التشريع في تحريم الخمر والربا والتدرج في تشريع أحكام الجهاد من جهاد الدعوة الى جهاد القتال الفاتح وكذلك التدرج الارتقائي في اسلوب البيان المختار في مراحل التنزيل الى غير ذلك من المعاني والدلالات التي تكشف بوضوح عن ان منهج التدرج منهج شرعي وعقلي تقتضيه الحكمة ويتفق مع الطباع السليمة. ولعل من اقوى الصورة دلالة على ضرورة مراعاة التدرج في المنهج الإصلاحي: 1 - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم» رواه البخاري 1/324. 2 - قول عبد الملك بن عمر لوالده عمر بن عبد العزيز « يا أبت مالك لا تنفذ الامور والله ما ابالي لو ان القدور غلت بي وبك فيجاوبه والده بحكمة «لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة وأنا اخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدعونه جملة ويكون من ذلك فتنة» العقد الفريد 1/14 نقلا التدرج في التشريع للزحيلي. 3 - يعود الحماس مرة ثانية الى عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز فيقول لابيه أمير المؤمنين «يا امير المؤمنين ما أنت قائل لربك غدا اذا سألك فقال رأيت بدعة فلم تمتها وسنة فلم تحيها فيسر الوالد الخليفة قائلا له «رحمك الله وجزاك من ولد خيرا والله لارجو ان تكون من الاعوان على الخير يا بني ان قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة ومتى اريد مكابرتهم على انتزاع ما في ايديهم لم آمن ان يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا اهون علي من ان يراق في سببي محجمة من دم..وإن الله ثناؤه لو اراد ان ينزل القرآن جملة واحدة لأنزله ولكنه انزل الاية والآيتين حتى استكمل الايمان في قلوبهم..» التدرج في التشريع 84. ثانيا:الإصلاح في نطاق الوسع والممكن ولعل في قول سيدنا هود «إن أريد إلا الأصلاح ما استطعت» دلالة واضحة على أن نطاق الإصلاح والتغيير هو الممكن والمتاح وليس للمصلح أن يكلف نفسه ما لا يطيق من الأحلام والأماني التي قد تكون مشروعة في ذاتها ولكنها خارج دائرة الممكنات أو المتاحات لأن النتيجية حينئذ ستكون ضياعا للأوقات وتشتيتا للجهود مع ترك المساحات المقدور عليها للخصوم المتربصين. إن من المقرر في أصول ديننا أن القدرة شرط عام في التكاليف الشرعية كافة قال تعالى «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» البقرة 286 وقوله تعالى «فاتقوا الله ما استطعتم» التغابن 16 ومن ثم فلا بد للدعوة الإصلاحية أن تنظر في مدى توفر القدرة والاستطاعة حتى تأتي بالأعمال على وجهها أراده الله تعالى ولا يذهبوا بالممكن في طلب المستحيل. وإن الناظر الى الحسبة – باعتبارها اداة إصلاحية فعالة - يجد أنها قد تدرجت مراعية قدرة المكلف على القيام بما اوجبه الله عليه فقال صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»رواه البخاري 5973 وفي هذا يقول الغزالي في شروط المحتسب «المصلح» «كونه قادرا ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه» الإحياء 2/346. ويقول ابن تيمية «وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فالوجوب مشروط بالقدرة والعقوبة لا تكون إلا من ترك مأمورا أو فعل محظورا بعد قيام الحجة» مجموع الفتاوى 19/122. ولا شك أن نظر المصلح أو المجدد إلى القدرة واعتبارها في مسيرته الإصلاحية امر في غاية الأهمية والخطورة لأن إهمال هذا النظر سيؤدي إلى ابتسار العملية الإصلاحية ويشوه صورتها أمام المتابعين ويظهرها بصورة الحركة المتعجلة المنفلتة التي تسيرها امانيها الحالمة وكم من المآسي عاشتها جماعات ودول من جراء إقدامها على مواجهات دون توفر أدنى قدر من الاستطاعة لتحقيق الهدف منها أو لإحراز النصر فيها.بل قد لا يكتفي بعضهم بذلك ولكنه ينسب المسلمين – ممن لا يملك القدرة ويعتبر في نظر الشرع عاجزا- ينسبهم إلى الجبن والتخاذل والركون إلى الدنيا وربما المروق من الدين والأصل أنه لا ينسب العاجز إلى تقصير ولا يلحقه إثم. ثالثا:ألا يؤدي الشروع في الإصلاح إلى وقوع مفسدة عظيمة فالأصل في البرنامج الإصلاحي ألا يؤدي إلى مفسدة تفوق مفسدة المنكر أو الفساد الذي توجهت نحو إزالته وفي ذلك يقول ابن القيم «إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وأن كان الله يبغضه ويمقت أهله..» إلى أن قال «ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده إلى قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه وقوع ما هو أعظم منه». وقال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد إبراهيم آل الشيخ : «مما ينبغي أن يُعلم أنه متى كانت مفسدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به ورسوله وإن كان ذلك في ترك واجب أو فعل محرم، فالمؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم، وليعلم أن الاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال». رابعا: سلفية المنهج وعصرية الإصلاح المقصود بالسلفية هم أهل القرون الأولى خير قرون هذه الامة وأقربها الى تمثيل الإسلام فهما وسلوكا والتزاما ويشير الشيخ القرضاوي إلى معنى اتباع السلف فيقول «وليس العودة الى ما كان عليه السلف ان نكون نسخا كربونية لهم بل المهم ان نتمثل منهجهم وروحهم في فهمهم وسلوكهم وتعاملهم مع الدين والحياة فنعود الى فهمهم للعقيدة في سهولتها ووضوحها وصفائها ونقائها بعيدا عن جدل المتكلمين وتعقيدات المتفلسفين واباطيل القبوريين. وإلى فهمهم للعبادة في روحانيتها وصفائها وخلوصها بعيدا عن شكلية الطقوسيين وابتداع المبتدعين، وإلى فهمهم للاخلاق في تكاملها وقوتها بعيدا عن شوائب التصوف الاعجمي والزهد الهندي، والى فهمهم للشريعة في مرونتها وسعة آفاقها بعيدا عن جمود الحرفيين وتقليد البمتعصبين وتشددات المخوفين، والى فهمهم للحياة وثبات سننها وقيامها على العلم والعمل بعيدا عن اخيلة الحالمين وافكار السطحيين، والى فهمهم للانسان باعتباره خليفة الله في الارض المكرم بالعقل والمخاطب بالتكليف وصانع الحضارة، الصحوة الإسلامية القرضاوي 36. وإذا كان عنوان السلف يوحي إلى بعض السطحيين بمعاني الجمود والتحجر وعدم التجدد فإن الاستقراء المتمعن لسيرة الصحابة يشير إلى «ان الصحابة كانوا افقه الناس لروح الإسلام ومقاصد شريعته واكثرهم تيسيرا للأمة وأقدرهم على ربط الدين بالحياة وأشجعهم في مراعاة مقتضيات الزمان والمكان والحال وكلما تدرجنا تنازليا من عصر الى عصر بعدنا عن المرونة والتيسير والتجديد ودخلنا دائرة الاحوط بدل دائرة الايسر حتى اذا انتهينا الى العصور المتأخرة وجدنا الجمود والتشديد والتقليد والوقوف عند اقوال المتقدمين». الصحوة الإسلامية القرضاوي 39. خامسا: مراعاة الأولويات وتلك سمة أساسية في نجاح المشروع الإصلاحي فمن الطبيعي أن تتنوع المصالح والمفاسد ولا تكون على درجة واحدة وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام «فمن وفقه الله للوقوف على ترتيب المصالح عرف فاضلها من مفضولها ومقدمها من مؤخرها وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح فيختلفون في تقديمها عند تعذر الجمع وكذلك من وفقه الله لمعرفة رتب المفاسد رتب المفاسد فإنه يدرأ أعظمها بأخفها عند تزاحمها» قواعد الأحكام 1/54 فالموفق هو من يضع الامور في نصابها «فيضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الاحكام والقيم والاعمال ثم يثدم الأولى فالأولى بناء على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نزر الوحي ونور العقل فلا يقدم غير المهم على المهم ولا المهم على الاهم ولا المرجوح على الراجح ولا المفضول على الفاضل او الأفضل بل يقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير ولا يكبر الصغير ولا يهون الخطير بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم» فقه الأولويات 9. وقد نص على ذلك الجويني حيث قال «البداية بالأهم ثم الأهم» غياث الامم 109نقلا عن كتاب التدرج في التشريع الزحيلي، وقال ابن تيمية عن مصارف الاموال الموجودة في بيت المال» وأما المصارف فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين» السياسة الشرعية لابن تيمية 24 نقلا عن المصدر السابق. سادسا:جريان المنهج الإصلاحي وفق قوانين السنن الكونية لقد قصر المسلمون كثيرا في الاهتمام بعلم السنن الكونية والاعتناء به في حين أن الله تعالى جعل السير في الأرض والنظر في أحوال الأمم السابقة وإدراك السنن والقوانين التي حركت التاريخ من الواجبات المطلوبة من المسلمين كتكليف شرعي له قداسته وقدره وأجره وثوابه فقد جاء الأمر بالسير في الأرض والنظر فيها مكررا ثلاث مراتٍ في القرآن وجعل القرآن غفلة المشركين عن معرفة هذه السنن وإدراكها من أسباب ضلالهم وبوارهم فجاء الإنكار عليهم بقوله «أو لم يسيروا في الأرض فينظروا» مكررا سبع مرات فإذا كان القرآن قد اهتم بتقرير هذه القاعدة و أمر بها في أكثر من موضع فكان من الواجب على دعاة الإصلاح والتغيير فأين هذا الاهتمام؟ وأين النظر؟ بل أين السير أصلاً؟ لقد بذلت المذاهب الفكرية والمدارس الفقهية والمنتديات العلمية قديماً وحديثاً الجهود وأنفقت الأموال في الحديث عن المسائل الخلافية والاجتهادية ولو أنها أنفقت معشار ما بذلته أنفقته لتأصيل هذا العلم وتأسيسه لكان -لا شك -خيراً وأحسن تأويلا لأنه مهما كان قدر الفروع من الأهمية فلا خلاف أن هذا الأصل أسبق والعكوف عليه أجدى. ولا شك في أن غياب الحديث عن السنن الكونية بهذا الشكل «المخيف» في خطاب الحركات الإسلامية ليوحي بأن القوانين الربانية لم تعرف بعد أهميتها ودقتها التي لها دقة القوانين العلمية والمعادلات الرياضية التي تسمح بجري السفن في البحار ودوران الآلات في المصانع. يقول الشيخ رشيد رضا مؤكدا حقيقة تجاهل المسلمين للسنن الكونية «لم يقصر المصنفون من المتقدمين والمتأخرين في شيء من علم الكتاب والسنة كما قصروا في بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سنن الله تعالى....». الصباح الكويتية