افتتح رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بخطاب قد يشكل ولفترة طويلة مادة نقاش. كونه اقترح إقامة نظام عالمي جديد يحل مكان نظام القطب الواحد، القائم على سيطرة دولة واحدة، ومركز مالي واحد. تحت وطأة تراجع وانخفاض أداء الاقتصاد العالمي إلى مستوى لم يشهده العالم إلا خلال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الأولى، شكل انعقاد المنتدى منبراً تطل من خلاله روسيا على العالم لتعلن عن نفسها شريكاً أساسياً في عالم ما بعد الأزمة، وتدعو للمشاركة في وضع معالمه الرئيسية، انطلاقاً من اعتراف الجميع بفشل نظام الاحادية القطبية الاقتصادية والمالية، على غرار فشل الاحادية القطبية السياسية والعسكرية في الحفاظ على أمن وسلامة وفعالية النظام الدولي في مواجهة الأزمات. والفضل هنا يعود إلى الأزمة العالمية التي أرخت بظلالها على جدول أعمال المنتدى، في إلقاء الضوء على الدور الفعال الذي تطمح أن تلعبه روسيا، إن من خلال مساهمتها في تأمين الوسائل اللازمة لتدارك تداعيات الأزمة، أو لناحية مشاركتها في عملية إعادة تشكيل النظام العالمي وبنائه على أساس من الثقة والتعاون بين لاعبيه الكبار. وهذا ما أشار إليه رئيس المنتدى كلاوس شواب في تقديمه لبوتين، عندما قال بأنه علينا الاعتراف بانتقال القوى السياسية والاقتصادية العالمية من الغرب إلى الشرق، وأنه ليس هناك من حل لأي مسألة تواجه العالم المعاصر، ابتداء من الحرب على الإرهاب، ووصولاً إلى قضية تغيّر المناخ، بدون مشاركة روسيا. إن اختيار بوتين جاء نتيجة لاتفاق غالبية المشاركين الدائمين في المنتدى على تسميته، ومنحه امتياز افتتاح الدورة الحالية للمنتدى، انطلاقاً من رغبتهم في الاستماع لما لديه، بعد أن ترسخت القناعة لديهم، بأنه ليس لدى ممثلي الدول المتقدمة، والتي طالتها الأزمة أكثر من غيرها، ما تطرحه من حلول غير تعويم البنوك والمؤسسات المالية المتعثرة ومن ثم استملاكها. ووفقاً للتقاليد المتبعة في تنظيم فعاليات المنتدى، فالشخصية التي تعطى الحق في إلقاء كلمة الافتتاح، يعود إليها تحديد القضايا المحورية التي سيدور حولها النقاش، ويتاح لها عرض رؤيتها حيال تلك القضايا في قاعة تضم نحو 2500 شخص، بينهم أكثر من 40 رئيس دولة، و60 ووزيراً، و30 رئيس منظمة دولية، وأكثر من 1400 رئيس شركة. وبالرغم من أن المنتدى لا يملك صلاحية اتخاذ القرارات إلا أنه يفتح المجال أمام المعنيين والمختصين بالتداول في شأن القضايا العالمية، ويسمح باستعراض الرؤى والمشاريع المطروحة حيالها، علها تكون قريبة أو مسموعة من قبل اصحاب القرار. وبغض النظر عن أن بوتين لم يضمن خطابه خطة كاملة للخروج من الأزمة المالية الراهنة، إلا أنه كان براغماتياً ومتوازناً لناحية تضمينه الخطوط العريضة لوجهة النظر الروسية بشأن كافة القضايا الملحة التي تواجه العالم، ولم يقتصر في استعراضه على الناحية المالية فقط، بل تطرق الى السياسية منها والاقتصادية والعسكرية، ما سمح للمراقبين برفع شعار إعادة تشكيل النظام العالمي على منصة دافوس. بخلاف التوقعات، لم يكن بوتين هجومياً في خطابه، إلا عندما تحدث عن إقدام جورجيا على محاولة فرض سيطرتها على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بالقوة، واضعاً الهجوم الجورجي في الخانة نفسها مع التفجيرات الإرهابية التي ضربت العاصمة الهندية مومباي، والحرب على غزة، معتبراً أنه بالرغم من أنها أحداث منفصلة، إلا أنه يراها مرتبطة من حيث تطور أعمال العنف الناجم عن عجز مؤسسات النظام الدولة في ايجاد حلول جذرية لها. معترضاً في هذا الإطار على سياسة العسكرية، في إشارة الى ما قامت به بعض الدول الكبرى من زيادة في إنفاقها العسكري، ما يشكل خطراً على الأمن العالمي، ليس فقط من ناحية تفاقم أعمال العنف، بل لأنه يؤدي الى تعميق الأزمة المالية جراء حرمان الاقتصاد من إمكانيات كبيرة في مواجهة الأزمة. اللافت في خطاب بوتين كان، من جهة، معارضته المبالغة في تقوية دور الدولة الاقتصادي في إطار معالجة الأزمة، من دون تطوير آليات السوق، محذراً من أن يؤدي ذلك الى انعزال تلك الدول، والى تدني قدرة اقتصادياتها على المنافسة والانتاج، على غرار ما حصل في الدولة السوفياتية السابقة، ووضعه، من جهة ثانية، للولايات المتحدة على قدم المساواة مع الصين في دورهما السلبي في تفاقم الأزمة المالية، وذلك من خلال اعتماد الأولى على إصدار كميات غير محدودة من الأوراق النقدية من دون مراقبة أو محاسبة من أحد، في حين أن الأخرى تعتمد أسلوب انتاج البضائع الرخيصة لجذب رؤوس الأموال والاحتفاظ بها. في الختام يبدو أن منتدى دافوس قد وضع جدول أعمال قمة الدول العشرين الكبرى المزمع عقدها في الثاني من نيسان المقبل في لندن. وكشف الستار عن بعض معالم النظام العالمي الجديد، وأبرزها تراجع الدور الأميركي مالياً واقتصادياً فيه مقارنة مع عالم ما قبل الأزمة، في مقابل تقدم لأدوار دول جديدة أخرى. المستقبل اللبنانية