مع حلول ذكرى استشهاده.. فإن السنوات الماضية أكدت أن سيرة الحريري ستظل عطرة. رفيق الحريري المعروف ببساطته وسماحة النفس.. والأدب الجم .. الذي لم يتفوه يوماً تجاه خصومه بحرف نابي.. رفيق الحريري.. اختلف عن كل الذين عرفناهم من الزعماء.. نعم لقد شيعه قادة ورؤساء دول وكبار مسؤولين.. ورجال مال.. إلا أن الذي تعرفونه عن الحريري القليل.. وما لا تعرفونه هو الكثير.. فلقد رحل الرجل ومعه الكثير من الأسرار.. كما الحال لعظماء الرجال.. ذلك «الكثير» أيها السادة.. يكمن في نشازه عن كافة الساسة الذين تعرفونهم لم تتلوث يده يوما بدم خلال فترة حكمه..لذا كان حقا علينا أن يبكيه لبنان. قد يتساءل الكثير.. ما هو السر.. في تلك الملايين التي شيعته.. والألوف التي بكته.. ما هو السر الغامض والكامن خلف الأشياء.. نعم رأينا كيف ينحني رئيس فرنسا أمام قبره.. إلا أن الحقيقة أن الذين بكوه.. هم أولئك.. الضعفاء والمساكين.. الذين كان أباً لهم.. فكان لهم بسخائه وعطائه وقلبه الكبير.. أي قلب هذا الذي يحتوي بين جنباته..كل هذا الفسيفساء المتنافر والمتشاكس والمتناحر يوما على ارض لبنان.. فجمعهم بقلبه الكبير.. رفيق الحريري .. لم يعش.. لمجده الخاص.. بل عاش لأجل لبنان الأمة. عاش من اجل الفقراء والمعوزين.. هل كان كثير مثل هذا القلب.. الذي يحنو على شعبه من الضعفاء والمساكين.. ويساعدهم في السر.. ولذلك تظل سيرته حية في تلك القلوب التي ودعته .. وتلك المآقي والعيون الدامعة التي بكته. أيها السادة.. أتذكر بيروت وهي تضج بالبكاء.. وترتج جنباتها بالدموع.. وحق لها أن تبكي.. لانها تعاملت مع رجل نبيل يختلف عن تجار السياسة.. عن مرتزقة الحروب.. عن القصابين من الحكام.. كان رجلاً وفياً لأمته..وفياً لقضيته.. عاش ليعطي .. فكان جزاؤه القتل.. القضية أيها السادة.. والمشهد الذي يحتاج إلى تحليل ووقفة.. ان كيف لهذا المجتمع بكل طوائفه المتضاربة أتت لتبكيه.. لأنه كان لهم باختلاف مشاربهم .. كان يجسد لهم الوفاء والاخلاص والحلم النبيل.. ما الحياة أيها السادة إلا جولة وينتهي مفترق الطرق بالنجاح أو الفضل إلا أن الحريري بالرغم من يد الغدر.. وبالرغم من النسف والحرق.. خرج منتصراً.. وكان اكبر وأبقى من قاتليه.. وكانت جنازته استفتاء على مكانة الرجل وبقائه في وجدان الشعب.. أي شخصية فذة .. هذه.. قد يبدو لمن يراقب الأمور من بعد.. أن ثمة لغزاً في هذه الشخصية .. صعبة الاستيعاب.. إنها لم تكن توازنات أو معادلات عقلية أو ذهنية قام بها رفيق الحريري في تعاطيه مع الواقع.. بل كان إيمان وإخلاص وقلب كبير.. كان مسالماً حوارياً لا ديكتاتوري. لم يكن قصابا ولا سفاكا للدماء.. حتى مع خصومه والذين طعنوه غدراً مئات المرات قبل أن يموت.. ولأنه كان نبيلاً.. يقتلونه محروقاً ومنسوفاً.. ليحولوه إلى جثة مهشمة طعنتها يد الغدر.. ويظل السؤال الأبدي قائماً.. لماذا يقتلون أولئك القادمين إلينا بأضواء قلوبهم.. نعم.. كان كثيرا علينا رفيق الحريري. كقلب كبير.. عاش للضعفاء أكثر من الأغنياء.. لتصرخ امرأة في الجموع أمام قبره بلهجتها العامية .. وبكلمات تقطر حزناً.. «هذا أبو المساكين هذا أبو العيال المستورة.. كل اللي بيشكيله همه بيشيل همه.. لو تصير تحت التراب قيمتك مرفوعة على الرأس..». إنها تلك المعادلة الموغلة في القدم والتي أجاب عليها.. أحد السلف.. «من حمل المؤن نال السؤدد». أيها السادة.. لئن قالوا بالأمس إن مجد السياسة عرضة للأحداث قد ينهدم على أهله في الأجداث. إلا أن مجد الحريري .. لن يكون عرضة للأحداث.. ولن ينهدم عليه في الأجداث.. ذلك لأنه.. كان وفياً مخلصاً.. لدينه ثم لشعبه وأمته. لقد قال البعض إن رفيق الحريري عنوان يصعب اختصاره في كلمتين..وكان من الصعب أن اوجزه في مقال..ذلك لأن الحريري.. كان كبيراً.. كان أكبر من الظروف التي أحاطت به.. وتعامل مع مفردات الواقع والأشياء بذهن أكبر.. ذلك لأنه لم يعرف شعوراً بالحقد أو بالحسد فلقد كان يتعاطى مع الأشياء بمعادلات الإيمان، وعدم التجبر على عباد الله .. لأن، الله هو الجبار. فلم تتلوث يده بالدماء.. ولم يطارد الأبرياء. لذا أقولها لكم من الصعب ومن المستحيل.. أن يهدموا للحريري مجداً. وان عالجوه بمنطق النسف والاجرام. دولة الرئيس الحريري. لهم العار..ولك المجد.. وتقبلك الله في الصالحين..