حين أعلن أن مليون عراقي قتلوا منذ الغزو عام 2003 لم يهتز شيء في العالم العربي، اذ مررته وسائل الإعلام، كما لو أنه خبر عادي باعتبار أنه منذ الاحتلال على الأقل أصبح الأصل أن يكون العراقي قتيلاً، والخبر المثير أن يظل على قيد الحياة. وربما ساعد على عدم الاكتراث بالخبر أنه أذيع متزامناً مع حدث انفجار الفلسطينيين المحاصرين في غزة أو انشغال الجميع بأصداء ذلك الانفجار وتداعياته إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة تراجع الاهتمام في الإعلام العربي بالحاصل في العراق، أو قل أن ذلك الاهتمام ظل منصباً على الأخبار والحوادث اليومية المتعلقة بالمواجهات المسلحة، ولم يرصد بشكل كاف المتغيرات الكبيرة التي طرأت على خرائط المجتمع، وتأثيرات تلك المتغيرات على حياة الناس وأحوالهم المعيشية التي تضاعفت فيها العذابات والمعانا. إن ثورة الجزائر حين قدمت مليون شهيد، فإنها دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، واستطاعت أن تحقق انجازاً كبيراً، تمثل في إزالة الاحتلال وإعلان استقلال البلد. لكن مليون عراقي قتلوا خلال خمس سنوات ودون أن تكون هناك بارقة أمل في أن يخرج الاحتلال في الأجل المنظور، بل حدث العكس، فإن ذلك الثمن الباهظ وإن أرق الاحتلال فعلاً وأزعجه إلا انه لم يتقدم بالبلد خطوة الى الأمام، وإنما تشير الدلائل الى انه تراجع خطوات على عدة أصعدة، كما سنرى بعد قليل. رقم المليون قتيل عراقي، أعلنته في لندن في اليوم الأخير من الشهر الفائت منظمة (هيومن رايتس ووتش)، استناداً الى دراسة ميدانية أجراها مركز استطلاع الرأي (اوبينيون ريسيرش بيرتس) شملت حوالى( 2414 )عراقياً متوسط عمر الواحد منهم 18 سنة. وكان السؤال الذي وجه إلى كل منهم يستفسر عما إذا كانت أسرته قد شهدت موت أحدٍ من أفرادها بسبب أعمال العنف، وليس بسبب الشيخوخة أو المرض. وبينت الاجابات أن عدد القتلى في الفترة ما بين(آذار) 2003 و (آب) 2007، يقدر بحوالى( مليون و33 ) ألف شخص، وأن أكبر عدد من القتلى سجل في بغداد، حيث فقد أربعون % من الأسر أحد أفرادها على الأقل. تحدث التقرير أيضاً عن استمرار انتهاكات حقوق الانسان في العراق من جانب القوات الأمريكية التي لم تتوقف عن تعذيب المحتجزين، إضافة الى احتجازهم في مراكز اعتقال سرية تمارس فيها تلك الانتهاكات على نطاق واسع. ولكي تدرك مدى فداحة الرقم، فإنني أذكر بخلاصة الدراسة التي أجرتها مجلة (لانست) الطبية الرصينة في بريطانيا بعد 18 شهرا من غزو العراق، وخلصت منها إلى أن أكثر من مائة ألف عراقي قتلوا خلال تلك الفترة (الدراسة أعلنت في الشهر العاشر سنة 2004)، وهو ما أحدث صدمة في ذلك الوقت، حيث أن وزير الخارجية البريطاني آنذاك جاك سترو صرح للإذاعة البريطانية بأن حكومة بلاده ستحقق في الأمر بمنتهى الجدية، مضيفاً أن هناك تقريرات أخرى تحدثت عن مقتل 15 ألفا فقط من المدنيين وليس مائة ألف. التقرير الأخير لمنظمة (هيومن رايتس ووتش) يدل على أن الأمور تدهورت كثيراً، وأن رقم المائة ألف تضاعف عشر مرات خلال خمس سنوات حتى وصل الى رقم المليون، الأمر الذي يعني أن ذلك البلد المنكوب فقد في كل سنة( 200 )ألف شخص في المتوسط. لقد أتيح لي أن التقي قبل إذاعة ذلك التقرير بعض ممثلي فصائل المقاومة العراقية، وكانت ملاحظتهم الأساسية ان العالم العربي نفض يده من الشأن العراقي وسلمه بالكامل للأمريكان، بحيث أصبح العرب متفرجين فقط عليه، كأي مشاهدين يتابعون شريطاً سينمائياً من أفلام الجريمة والعنف، وتنقطع علاقتهم به عندما تظهر إشارة الانتهاء وأبدى احدهم استغراباً واندهاشاً من أن العرب نسوا أن العراق الذي يجري افتراسه وتقطيع أوصاله وتدميره هو جزء حي من الأمة العربية، بفقدانه تدمر بوابتها الشرقية، وتخسر الأمة الكثير من عافيتها، وأنه بعد خسارة العراق فإن العالم العربي لن يكون بعيداً عن التداعيات اللاحقة لذلك. وهو المشهد الذي ينطبق عليه المثل القائل (أكلت يوم أكل الثور الأبيض). وأضاف أحدهم أن العالم العربي مستغرق فيما يحدث على أرض فلسطين، وذلك موقف طبيعي مفهوم ومبرر، ولكن السؤال الذي نفكر فيه أحياناً هو: هل من الضروري أن يؤدي ذلك الاستغراق إلى إدارة الظهر تماماً لما يحدث في العراق؟ وقبل أن يجيب عن سؤالي، قال إن ما حدث في غزة من محاولة لتدمير حياة الناس وإنهاكهم، له نظيره في بغداد، التي يتعرض الناس فيها للترويع والموت في كل وقت، وتشح فيها المياه وينقطع التيار الكهربائي والغاز طوال اليوم في هذا البرد باستثناء ساعة واحدة، تزيد أو تقل، كما أن الحواجز المقامة في الأرض المحتلة لها نظائرها في بغداد، التي أقيمت الأسوار بين أحيائها فأحاطت بالأحياء التي يعيش فيها أهل السنة، كما أن تلك الأحياء أقيمت داخلها أسوار أخرى فصلت بين أهلها. قلت لمحدثي إن القضية الفلسطينية مهيمنة على الإدراك العربي منذ ستين عاماً على الأقل وانشغالهم بها يرجع إلى أنها تؤثر على الأمن القومي للعرب أجمعين، الأمر الذي أعطاها أولوية حجبت عنهم رؤية أمور أخرى مهمة في المجتمعات العربية، بعضها يتعلق بالأوضاع الداخلية لكل قطر، بل إن بعض الأقطار تعللت (بالقضية) لكي تؤجل نهوضها بمسؤلياتها إزاء العديد من استحقاقات العمل الوطني. قلت ايضاً أن تعاظم الدور الأمريكي في العالم العربي، كان من الأسباب التي أسهمت في إحجام أغلب الأقطار العربية عن القيام بشيء لصالح الشعب العراقي. وهو ذاته الإحجام الذي جعل تلك الأقطار تؤيد. الحصار الأمريكي (الإسرائيلي) على قطاع غزة، وتنحاز إلى مواقف الفلسطينيين في رام الله (الموعودة أمريكياً وإسرائيليا) في صراعها ضد الحكومة المنتخبة في القطاع. قلت كذلك إن خريطة المقاومة العراقية تداخلت فيها الخطوط بصورة أساءت إليها تارة، وطمست معالمها الحقيقية تارة أخرى، بحيث أننا لم نعد نعرف من مع الشعب العراقي ومن ضده، ومن مع الأمريكان ومن ضدهم. قاطعني محدثي قائلاً إن التطور الحاصل في وسائل الاتصال مكَّن كل من هب ودب من أن يؤسس موقعاً على شبكة (الانترنت) ليطلق من خلاله ما شاء من بيانات وإنذارات وبلاغات يتعذر التحقق من صحتها لكن الثابت أن على الأرض مجموعات أو فصائل تنسق فيما بينها الآن، هي التي تقاتل الاحتلال وتعتبره عدوها الأول. عن بصائر العراقية