أيام طفولتنا, وقبل بناء «العمارات» العشوائي, كان الشاطئ الرملي لمدينتي «صور» ملعباً ومرتعاً للكبار والصغار. وكان هدير صوت الموج يسكن مسامعنا من دون انقطاع. هكذا نشأنا وترعرعنا على شاطئ، حفرنا على رمله أسماءنا وأسماء محبوباتنا، ليأخذها الموج بين أحضانه عميقاً الى الداخل وذلك حتى لا أقول إنه يزيلها ويمحوها من على خدّ الرمل! أذكر جيداً، وكذلك أترابي يذكرون، أننا وُلدنا وهَوَس السباحة في البحر يجري في دمنا وأوصالنا، لكأن أهل «صور» يتقنون فن السباحة وهم أجنّة في بطون أمهاتهم تماماً كالسلاحف التي تخرج من بيوضها متجهة بالغريزة نحو البحر وهي تتقن فن العوم! في أواخر الخمسينيات،كنت تلميذاً صغيراً لم يتعدَّ السبع سنين من العمر. وكانت «شخصية» المعلِّم بالنسبة إلينا ‐ نحن الصغار‐ مملوءة بالرهبة والخوف، فقد كان بنظرنا هو الكائن القادر على المحاسبة وعلى انزال العقاب، وهو المالك لكل مفاتيح القرارات. فكيف إذا كان معلِّماً وناظراً وكارهاً للبحر وللسباحة في الوقت نفسه، مضافاً الى هذا الطاغوت السلطوي الصلاحيات التي منحته إياها الادارة المدرسية ووافق عليها الأهالي وجميع «أوادم» المدينة. كان هذا المعلِّم يقوم يومياً بجولة تفتيش على كل أطفال وأولاد المدرسة، وذلك أثناء اصطفافهم التقليدي قبل الدخول الى قاعات الدرس، فيمر بينهم بخيزرانته اللاسعة، متفحصاً نظافة أيديهم وأظفارهم، وحسن هندامهم، وما اذا كانوا قد سرَّحوا جيداً شعورهم، وغسلوا كما يجب وجوهم ونظفوا أنوفهم! وكانت أمام طلّته ترتعد الفرائص، وتهتز الخواصر، وتنعقد الخناصر، وتتسارع ضربات القلب، وأحياناً كثيرة كان «الاسهال» يدهم بعض الامعاء الحساسة، ناهيك عن الهجمات المفاجئة ل«التبوّل اللاإرادي»! وبموجب الصلاحيات التي أعطيت له فقد أصدر فرماناً همايونياً، منع بموجبه السباحة في البحر عن كل الأولاد، مهما كانت الظروف والحالات، وحتى أثناء العطلة الأسبوعية. وكلّف لمراقبة هذا الأمر عدة «جواسيس» من التلامذة الكبار لتسجيل أسماء المخالفين. وكان في صباح كل يوم مدرسي يتلو أسماء خارقي القرار وينزل بهم العقاب أمام الجميع. ومع وجود كل أنواع المخابرات، وبروز شطارة دهاقنة الغستابو والجاسوسية من رهط الواشين، بقينا نتحايل عليهم وعلى أساليبهم، فنذهب الى البحر ونسبح في أمكنة لم يصل إليها بصر وبصيرة هؤلاء المتعقّبين. وحين عَرَفَ الناظر ‐ طبعاً بواسطة أهلنا ‐ كثافة الخروقات، واكتشف بالتحقيقات البوليسية حصول رشاوى عدة لهؤلاء «العملاء» تراوحت بين المناقيش بزعتر وكعك وقضامي وصولاً الى التمر وبزر البطيخ المحمّص بالبيت! حتى طار صوابه، فتفتق ذهنه العبقري عن فكرة جهنمية أرعبتنا وسدّت بوجهنا سبل متعة السباحة كافة. كان الأولاد حينذاك ‐ ومن دون استثناء في المدرسة ‐ يلبسون بناطلين «شورت»، فقام الناظر وطَبَعَ «ختم المدرسة» الرسمي على الفخذ الأيمن لكل تلميذ، مع وجوب بقائه «حكماً» والمحافظة عليه من الزوال طوال الأسبوع، عن طريق عدم تعرّضه للماء!! أما في حال قرّر الأهل «تحميم» ولدهم، فقد كان عليهم أن يرسلوا مع الولد «المحمّم» في اليوم التالي ورقة تحتوي على النص الآتي: «حضرة الناظر المحترم. لقد حمّمنا ولدنا بتاريخ كذا... ولهذا زال ختم المدرسة الكريم. نرجو منكم اعادة ختم ولدنا. قلوبنا معكم ومع نهجكم التربوي»!! وبموجب هذا الختم اللعين لم يتجرأ أحد على السباحة وأصبح الأطفال جميعاً «ووتربروف»!! عصر ذات يوم خطرت ببالي فكرة شيطانية، فقد اكتشفت أن غطاء دواة الحبر «المحبرة» يغطي تماماً ختم المدرسة الغاشم. فسارعت الى وضعه فوق الختم، وجلبت خرقة لففتها حول فخذي عدة أطواق، لتمسك جيداً بغطاء الدواة، وتعزل الماء كلياً عن الختم! وذهبت الى البحر وسبحت كما لم أسبح من قبل، واكتشفت منذ ذلك الحين أن السباحة ضد القرارات والأنظمة «البزرميطية» والاجتهادات «الخرنكعية» هي دائماً أمتع وأثبت وأبقى! عن صحيفة القبس الكويتية