رحل الصديق العزيز ورفيق العمر العزيز شيخ الرومانسيين الأستاذ عبدالله عبدالرحمن الجفري . . رحل بهدوء وبلا ضجيج . . بعد معاناة وصبر واحتساب . . وقد كان كل ما فيه أديب . . منطقه فيه أدب . . وخلقه فيه أدب . . وحديثه فيه أدب . . وكتاباته ورواياته، بل وكل تعاملاته فيها أدب ينم عن أصل هذا الإنسان الكريم . . والسيد الحبيب ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد أكرمني الله أن أكون على مقربة منه في مراحل معاناته الأخيرة .. ورأيته صابراً محتسباً متشوقاً للقاء ربه .. وتذكرت وأنا أشد على يده قول الله عز وجل الذي يؤدبنا ويعلمنا ان هذه العترة الطاهرة يوليها رعاية وعناية يطهرها بها : " انما يريد الله ان يذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا ". وكم تعلمنا ان الله سبحانه وتعالى اذا احب عبداً اكرمه وطهره وامتحنه ثم اثقل عليه في سكرات الموت حتى اذا جاء اليه جاء كيوم ولدته أمه رحمة من ربه وتطهيراً له . ولقد ذرفنا الدمع ونحن نودعه الى مثواه الأخير، بجوار جدته الحبيبة رضي الله عنها وارضاها في مقابر المعلاة، وأحسسنا بألم، ولكننا تذكرنا ان ما عند الله هو خير وأبقى، وسلمت على الأولاد الأعزاء وجدي ونضال واياد، وسألت الله ان يجعلهم خير خلف لوالدهم هم واخواتهم العزيزات زين والجوهرة والعنود، وهذه السيدة الفاضلة أم وجدي التي ركعت بجواره وواسته وخففت عنه حتى اللحظات الأخيرة . ثم التفت الى أصدقاء العمر الذين كانوا معنا في جنبات الحرم المكي الشريف ونحن ننهل العلم الأدب في حصاوي الحرم وعلى يد اساتذة كرام في مدارس الفلاح والرحمانية وتذكرت جولاتنا بين حارة الباب والشبيكة وسوق الليل والشامية وقهوة عبدالحي في المسفلة، وكيف كنا نتتلمذ على يد اولئك الأدباء الشوامخ الذين تعلمنا منهم الأدب قبل كل شيء، وتوجهت الى الله اسأله الرحمة والغفران لهذا الإنسان الذي اشهد انه كان من الرحماء، ومن المؤمنين بحق الإنسان وحقوقه ومن الذين عبروا عن ذلك، وقد دفع ثمن كل ذلك، وتعب وقسا عليه الزمن، ولكنه انتصر اخيراً عندما حقق آماله وآصبح رمزاً ادبياً من رموز هذه البلاد، وشيخاً للرومانسية والأدب، وكان سيعداً وهو يتلقى رسائل التقدير والاعجاب من خارج المملكة وداخلها ويسارع باطلاعنا عليها لنشاركه الفرحة . كان سيدنا حبيباً الى النفس، حبيباً الى القلب، كل ما فيه حبيب، وكل ما فيه أديب، ولكنه صاحب قلم صلب لم ينكسر، ولم يحنِ رأسه أبداً حتى عندما عدت عليه عاديات الزمان ظل شامخاًًًً كما قال صديق العمر الأستاذ محمد باخطمة : " رجل لا يقبل انصاف الحلول " فقد كان ممن يعتزون بآرائهم ويفتخرون بنسبهم، ويدافعون عن كرامتهم، فظل شريفاً أبياً . لقد بدأ بنفسه فأدبها، ثم بأسرته فعلمها وحن عليهم جميعا وأدبهم بنين وبنات، وكانت لهم جميعا صولات حب في نفسه وان تربعت زين في بعض الأحيان أو برز وجدي في أحيان أخرى ولكن الجميع ذاقوا حلاوة حب الابوة فأدبهم واحسن تأديبهم . كان وفياً مع أصدقائه وكان له قلب يتسع لحب الناس، يشاركهم في كل شيء ويفرح بهم ويفرح لهم . وقد زرته في مراحل صراعه الأخير مع المرض، وكان معي الصديق الاستاذ محمد جوهرجي الذي سماه رحمه الله " موهوب " والاستاذ أحمد شوقي آشي الذي كان يفرح بلقائه، والشاعر الدكتور عبدالعزيز خوجة الذي خلع عليه رحمه الله " شاعر الصهيل الحزين " فجاءت المقدمة التي قدم بها ديوان الدكتور عبدالعزيز خوجة من أجمل ما قرأت، وكانت فرحة الدكتور عبدالعزيز بها كبيرة فقد كان يقدمها للناس قبل ان يقدم ديوانه اعتزازاً بها، وكان يأنس بنا ونحس ونحن نزوره بأنه رجل قوي بايمانه وثقته في ان يلقى الله وهو عليه راض ان شاء الله . وقد زرته يوماً بمفردي مصطحباًًً معي طبيباً مختصاً في المرض الذي كان يعاني منه وكان من الزملاء الذين عرفتهم خارج المملكة وقدمته له وطلب ان يطلع على التقارير، فكان طبيبه المعالج كريماً واطلعه على كل التقارير، وبعد اطلاعه على تلك التقارير تحدث الى السيد عبدالله رحمه الله فإذا بنا نفاجأ بأن السيد كان يتحدث الى الطبيب بصورة رومانسية عجيبة وهو يضحك ويقول : أنا يا دكتور أحمد الله على ما أنا فيه، واسأله الشفاء، وشكراً لزيارتك، ولابد أن نتذكر أن هناك الكثيرين من المرضى مثلي في شتى بقاع العالم ومنهم من لا يجد الدواء أو المكان الذي يأويه أو الإنسان الذي يعتني به، أو بصيص الأمل في شفاء، وأنا والحمد لله انعم بكل هذا مع أسرتي وأولادي وأصدقائي الذين هم من حولي، وقد كان المرض فرصة لي لأشكر الله على الصحة، وما هيأ لي من مناخ فيه عبير وعبق هذا الحب الذي تراه فاستنشق رائحة هذا الحب فانتعش واتلمسه فأبتهج انها يا دكتور لحظات امتحان، ولكن فيها متعة الاحساس بشكر الله ولطف الله وأخذ السيد يسترسل وحرصت ان اسجل ما استطعت فإذا بالرجل يخرج الى خارج الغرفة وظننت أنه تأثر من كلام السيد أو أنه ظن ان السيد لا يرغب في علاجه، فخرجت خلفه فوجدته يذرف الدمع فقلت : ما هذا يا دكتور؟ قال : هذا الرجل يتكلم بلغة المؤمن وفي متعة لم اشاهدها في مريض فحصته من قبل !. فأرخيت برأسي وأنا أقول : انها رومانسية رحيل .. هذا الرجل رومانسي حتى في رحيله . وكانت ارادة الله وكان قدره وقضاؤه، فغدونا لا حول لنا ولا قوة إلا ان نقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله و " إنا لله وإنا إليه راجعون ". اللهم أكرم عبدك عبدالله جفري وارحمه وان تؤنس وحدته في قبره، وتخلفه خيراً في أهله وولده .. اللهم ارحمه فقد كتبت على نفسك الرحمة يا رب العالمين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين