أنتهز فرصة بلوغ شهر الصيام المبارك لأتقدم إليكم مهنئاً به، سائلاً الله تعالى أن يمنحنا جميعا حسن صيامه وقيامه، وأن يجزل لنا فيه العطاء الدنيوي والأخروي . وكالعادة ألتقط من كنوز أفكار رمضان فكرة لتكون موضوعاً للتهنئة، وقررت أن أواصل فكرة توجيه مسار بعض القواعد المشهورة، فبعد قاعدة " فتح الذرائع " يحسن بنا في عامنا هذا تناول قاعدة " إن في الإمكان أبدع مما كان " لنزن بها قاعدة النفي المشهورة " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، قاصراً هذا التواصل على ناحيتي " التفكير والبحث، لا ناحيتي " القدر والقدرة، اللتين أرادهما حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله في قاعدته المدونة في كتابه " إحياء علوم الدين " ، والتي دافع عنها الإمام السيوطي يرحمه الله في كتابه " تشييد الأركان " ، لأن البساط ليس بساطهما . ما المقصود من " إن في الإمكان أبدع مما كان " ؟ المقصود هو عدم الركون إلى العجز، وعدم الاستسلام للواقع، والتعلل بأن هذا هو الأفضل وما عداه مستحيل .لاسيما أن أغلب من يصر على النفي يعبر ضمنياً عن استقالة الوعي، وضيق الأفق، وقتل الإبداع . إن الإبداع الحقيقي يتعارض مع الخضوع، والمبدع بطبيعته يضيق بكل القيود، وبكل ما يحاصر عقله وذاته .تنزع نفسه دوماً إلى الجديد والتجديد، وتختنق من النمطية، يقول ما يؤمن به بصرف النظر عما يراه الآخرون .ولذا كان خطراً على محبي الثبات على التقليد، والمولعين بالعيش في اطار " ليس في الإمكان أبدع مما كان " . الإسلام والإبداع : لقد حث الإسلام على التفكير بإعمال العقول في معرفة الظواهر الكونية للوصول للإيمان الصحيح بالاستناد على الأدلة العقلية :"وهو الذي يُحيي ويميتُ وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون " .وهذا اليقين لا بد أن يرتبط بحرية البحث والتقصي، ويدفع إلى الإبداع والتجديد في التفكير وأسلوب البحث ومنهج التحري " قُل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياءٍ أفلا تسمعون " . ولقد سبق القرآن الكريم الجميع إلى طريقة عرض القضايا في صورة مشكلات للتحفيز على التفكر، ولام الناس على عدم استعمال العقل كما في قوله تعالى :"إنَّ شرَّ الدوابِ عند الله الصمُ البكمُ الذينَ لا يعقلون " . التوازن هو الحل : إن المجتمع البشري يحتاج إلى قدمين ليسير عليهما، وهاتان القدمان عبارة عن جبهتين متقابلتين، ولو درسنا أي مجتمع متحرك لوجدنا الأمر كذلك .فهناك جماعة تريد إبقاء القديم على قدمه، إيماناً منهم بأنه " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، ونجد إزاء هذه الجماعة جماعة أخرى تؤمن بأنها تستطيع أن تأتي بالأعاجيب، ومن الضروري وجود هاتين الجماعتين، لأن خلو المجتمع منهما قد يؤدي إلى انهياره تحت وطأة الظروف المستجدة .إن الصالح في المجتمع هو ذلك الذي يتحرك بهدوء، ويوازن بين المحافظة والتجديد، فلا يطغى جانبٌ على جانب آخر، وخير دليل على هذا التوازن قوله صلى الله عليه وآله وسلم :"الجماعة رحمة والفرقة عذاب " الذي رواه الإمام أحمد، وقوله صلوات ربي وسلامه عليه : " اختلاف أمتي رحمة " الذي رواه الإمام البيهقي . خاتمة : في ظل المرارة والإحباط اللذين يشعر بهما وبغيرهما الأكثرية من حولنا بسبب الانحدار والسلبية اللتين وصلت إليهما بعض أو أغلب الشعوب المسلمة في شتى حقول الحياة، يتطاير يومياً كثير من الشرر، يصعب على البصير تجاهل رؤيته ورؤية آثاره، وما التزمُّت الفكري إلا أبرز علاماته البالغة المرارة، ولعل قاعدة " إن في الإمكان أبدع مما كان " تدفعنا إلى عدم تعطيل التفكير فيما يجري من حولنا، وتدفعنا أكثر إلى اصلاح بواطننا، والله من وراء القصد .