جدة ..هذه الصبية الصغيرة ..تجلس على البحر ..تفرك عينها والصيف يعصرها كالليمونة ..والريق يتحلب لرؤية السقايين يحملون قرابهم المملوءة بماء " العسيلة " أو حتى ماء " الصهاريج " الدائمة التعكر ..أربعة كيلو مترات ..وخمسون ألفاً من الناس ..وسور !! كانت البلدة محدودة والمدارس معلومة ...كانت المدرسة الرشيدية والفلاح ..وما عدا ذلك فالسطوة والنفوذ لشيوخ الكتاتيب ..ففي حارة الشام كتاب الشيخ علي هلال وفي حارة المظلوم كان كتاب الشيخ سعيد عطية، وفي حارة اليمن أيضا كتاب الشيخ حسين عطية ..أما كتاب الشيخ محمود عطية فكان بجوار شارع قابل وبالتحديد في زاوية عثمان بن عفان أقدم زوايا جدة قديمة ..أما آخر الكتاتيب في جدة فقد كان كتاب الشيخ محمد عطية بحارة المظلوم والذي قفل بعد وفاته حيث لم يزاول أنجاله هذه المهنة التي ظل يتوارثها الأهل حوالى مائة عام ..وكان هذا آخر عهده بالكتاتيب والجيل الذي احترف مهنة التدريس فيه ..فقد تطور التعليم ووصل الى كل مكان المدينة ، والقرية، السهل والجبل ..حيث لم يدر بذهن رائد التعليم بجدة الحاج محمد زينل مؤسس مدارس الفلاح أنه خلال جيلين فقط تتحول الدنيا كل هذا التحول، وتصبح المدارس بهذا الشكل او بهذا العدد في مدينة جدة . منذ نصف قرن جاهد الحاج محمد زينل لترسيخ فكرة التعليم أيامها كان التعليم نوعا من الترف ..كانت الاحوال الاقتصادية قاسية لا تسمح بهذا الترف ..؟! أولياء أمور التلاميذ كان الواحد منهم إذا وصل ابنه الى الصف السادس اكتفى بذلك وأخرجه ليعمل ..يدفع به إلى السوق سوق الحراج، أو الندى أو سوق البدو .يدفع به إلى دكان نجار أو حداد أو حتى إلى الصيادين ..أما إذا كان الوالد محظوظا فقد كاتبا في أحد محلات التجارة .كانوا يدفعون بالطالب الى العمل في هذه السن ليكتسب ويساعد في فك الضائقة المالية لعائلته ..فكر الحاج زينل رحمه الله في هذه الأوضاع ، وتوصل إلى حيلة مغرية وغريبة ..جعل لكل تلميذ يدرس " سنة سابعة " جنيها ذهبيا، والتلميذ الذي سنة ثامنة جنيهين و " سنة تاسعة " ثلاثة جنيهات من الذهب ..يدفع هذا من جيبه الخاص مكافأة للتلاميذ ومساعدة لأولياء الأمور . كان هذا من زمن بعيد ..بعيد ..لم أعايشه أو أتعايش معه بل سمعته من مشايخنا أمثال الأساتذة أحمد قنديل ومحمد حسن عواد رحمهما الله والأستاذ عمر عبد ربه أطال الله في عمره .صورة هذا العالم الجميل البسيط الأليف ..عندما ينسحب أمام ضغط التغيير والحضارة الجديدة ..يلم عاداته وجماله ..وسحره .. تلك كانت جدة ..جدة القديمة ذات السور العالي ..جدة الصغيرة ، جدة الأربعة كيلو مترات، والخمسون ألفاً من البسطاء ..يدخل هذا العالم الجميل البعيد ..من باب مكةالمكرمة ..باب شريف ..باب البنط ..باب المغاربة ..باب جديد ..يدخل ثم تغلق من خلفه هذه الأبواب واحداً وراء واحد ..ومع حلول الظلام تشغل قناديلها الشاحبة ..وتنام جدة ..رأسها على وسادة الصحراء وقدميها في البحر ..وتحلم وتحلم بالغد .. ص .ب52986 جدة 21573