" تعالي يا ابنتي ، هاتي صينية ومِلعَقة وشوكة وكأس ماء نظيف وقَدِّميها إليه هكذا، إنك لم تخسري شيئاً، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدَّمتِ له الصحن والرغيف كَسَرتِ نفسه وأشعرته أنه كالسائل ( الشحاذ ) ،أما إذا قَدَّمْتِه في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة ينجبر خاطره ويحسّ كأنه ضيف عزيز " . هذا ما قاله الشيخ على الطنطاوي يرحمه الله لابنته الصغيرة حين رآها تحمل صحنين لتعطيهما الحارس لإفطاره في شهر رمضان المبارك ..وقد جاء هذا ضمن مقاله الرائع والذي نُشِر قديماً حوالي عام 1956م .حقيقةأشياء صغيرة وبسيطة لم تلتفت إليها الابنة الصغيرة ..فالمكونات واحدة لم تزد عليها شيئاً سوى طريقة التقديم والإخراج ..إلا أن مردودها ووقعها على نفس المتلقي بالطبع كان كبيراً وجميلاً ..وما أكثر الصور في حياتنا اليومية التي ربما تحتاج منا إلى قليل من الاهتمام لإعادة طريقة التقديم والإخراج وفي بساطة .. فمثلاً من هذه الصور الجميلة أنك عندما تعود مريضاً في المستشفي لا تنسى أن تسلَّم كذلك على المريض الذي يجاور صديقك أو قريبك في نفس الغرفة وربما الغرفة المجاورة وأن تدعو لهم ..حيث أن انشغالك بالسلام والاطمئنان على صحة من تزور في نفس الغرفة فقط ربما يجعل المريض أو المرضى الآخرين يجدون في أنفسهم تأثراً ..وإذا قدمت طبق الشوكولاته لعواد قريبك أو صديقك المريض، فإنك تتعاهد بها أيضاً زوار المريض أو المرضى بجواره مع الابتسامة والدعاء لمريضهم أو مرضاهم ..فإنك لا تخسر سوى دقيقة أو دقيقتين فقط إضافة إلى قطعة أو قطعتين أو ثلاثة من الشوكولاته ، وربما بضع فناجين من القهوة التي تقدمها لهم وتكسب أجراً جزيلاً وتكون قد أدخلت سروراً على المريض وعُوَّاده لاسيما أنك لم تبذل مجهوداً كبيراً أو مضنياً خصوصاً أنك قد وصلت أصلاً المستشفى للزيارة وطلباً للثواب . ومن الصور الأخرى كذلك والتي ربما تحتاج إلى " أشياء صغيرة " لتعديلها إلى الأحسن ، هي أنه عندما يشكو مريض لبعض أقاربه أو معارفه من مرض يعاني منه،تجد أنه ربما يبتدره بعبارات جافة ..وقد يستطرد فيضرب له الأمثال ويذكره بحالات مشابهة لم يشفوا أصحابها بَعْد بسبب إهمالهم لها وعدم متابعة العلاج ..فيزداد ألماً على ألمه ..وطبيعي أن من الأفضل أن ي ُطمئنه وأن يَبعث فيه الأمل والثقة بالله ..وليقل مثلاً أنا أعرف نفس الحالة جاءت لفلان وفلان ويُعدد له ما استطاع مشجعاً إياه بأنهم جميعاً لم يهملوها وأخذوا بالأسباب وتعافوا تماماً ..فكل شِدَّة إلى زوال إن شاء الله .." أشياء صغيرة " وعبارات بسيطة تُدخل الأمل والسرور على المريض وتجلب الأجر والثواب لقائلها ..ولا مانع من أن يقول له بعد ذلك يا شيخ لازم تهتم بصحتك ونحوها ..وحول فائدة ووقع " الأشياء الصغيرة " . هذه أود أن أحكي لكم قصة تبين كيف أن اختيار وإعادة ترتيب كلمات بسيطة تكون سبباً في إدخال السرور على نفس المتلقي ..فيُحكى أن رجلاً من السابقين رأى في المنام رؤيا وهي أن جميع أسنانه قد سقطت من فمه ..فطلب أن يبحثوا له عن مُعَبِّر ي َعبُر له هذه الرؤية ..فجيء به فقال : يموت جميع أقاربك ..هكذا ببساطة ألقاها في وجه الرجل !!فكان وقعها صعباً عليه ..فطلب مُعَبراً آخر فجاءه وبأسلوب بسيط وحكيم وبنفس معنى ذلك المعبر السابق قال : أبشر فإنك أطول عمراً من أقاربك ..وعمرك مديد بإذن الله تعالى ..فالمعنى واحد إلا أنه وضعه في الشكل والقالب الجميل البسيط الذي كان سبباً في إدخال السرور على نفس المتلقي .. والحقيقة أن جميعنا يعلم ويعيش مثل هذه الأشياء الصغيرة ، وهذا الأسلوب الجميل ، ونتعامل به في معاملاتنا اليومية وربما بأسلوب أكثر قبولاً ورقة ، وهذه نعمة ومِنَّة من الله تعالي ..إلا أنني أؤمل في أن تبقى دوماً في نفوس أجيالنا وأن يحذوا حذوهم الشباب ويتذكروا مثل هذه " الأشياء الصغيرة " في حياتهم اليومية، وها أنا ومن كل قلبي أدعو الله لك أيها القارئ العزيز بطول العمر والعافية والتوفيق وألا تسقط أسنانك أبداً لا في الحِلم ولا في العِلم ...قُل آمين .. y_alyousof@yahoo .com