أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ماهر بن حمد المعيقلي، المسلمين بتقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والنجوى؛ ذلك أن تقوى الله تعالى سبب للبركات، وتكفير السيئات، ودخول الجنات. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: إن التعرف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، يدعو إلى عبادته، ومحبته وخشيته، وتعظيمه وإجلاله، وبحسب معرفة العبد بأسماء الله وصفاته، يكون إيمانه واجتهاده في عبادته، ولقد أثنى سبحانه وتعالى على ذاته العلية، فوصف نفسه بصفات الكمال والجلال، فقال في محكم تنزيله: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون}؛ فهو سبحانه الجبار الذي له العلو على خلقه، فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، لن يبلغ الخلق نفعه فينفعوه، ولن يبلغوا ضره فيضروه، قهر الجبابرة بجبروته، وعلاهم بمجده وعظمته، وفي سنن ابن ماجه، بسند صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يقول: (يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده). وقبَض يده، فجعل يقبضها ويبسطها، (ثم يقول: أنا الجبار، أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون). وأضاف: اسم الجبار فيه صفة علو وقوة، فهو كذلك فيه صفة رأفة ورحمة، وفي سنن الترمذي بسند صحيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني)، فالله جل جلاله يجبر الفقير بالغنى، والضعيف بالقوة، والمنكسرة قلوبهم، بإزالة كسرها، وإحلال الفرج والطمأنينة فيها، ومن لطف الجبار وكرمه؛ ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له، فيجبر كسيرًا، ويعافي مبتلى، ويشفي مريضًا، ويغيث ملهوفًا، ويجيب داعيًا، ويعطى سائلًا، ويفرج كربًا، ويزيل حزنًا، ويكشف همًّا وغمًّا، وفي القرآن العظيم، يخبرنا الجبار سبحانه بجبر قلوب أنبيائه ورسله؛ فهذا نبي الله موسى عليه السلام، لمّا رغبت نفسه إلى رؤية الله تعالى، وطلب ذلك منه، أخبره سبحانه أن ذلك غير حاصل له في الدنيا، ثم سلَاه، وجبر خاطره بما آتاه، فقال: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}. وأردف يقول: لما أُخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من موطنه مكة، وهي أحب البقاع إليه، وقف قبل خروجه، على موضع يقال له الحزورة، وهو تل مرتفع يطل على الكعبة، فقال: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك، والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"، فجبر الله تعالى خاطره، وأوحى إليه وهو في طريقه إلى المدينة {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد}؛ أي: أن الذي أنزل عليك القرآن، وأمرك بتبليغه، لرادّك إلى الموضع الذي خرجت منه، عزيزًا فاتحًا منتصرًا، ولقد صدق الله وعده، ونصر عبده، فعاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة، عزيزًا فاتحًا منتصرًا، ووعده سبحانه بأن يعطيه حتى يرضيه، {ولسوف يُعطيك ربك فترضى}. وتابع "المعيقلي": جبر الخواطر، سجية تدل على سمو نفس صاحبها، ورجاحة عقله، وسلامة صدره؛ فلذلك كان الحظ الأوفر منها لسيد المرسلين وإمام المتقين، الذي بعثه الله رحمة للعالمين؛ فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه، أصلح الناس قلبًا، وأصدقهم لسانًا، وسِع خلقه الناس سهولة ورفقًا، وفاضت يداه بالعطايا كرمًا وجودًا؛ فكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، يجبر خواطرهم، ويتفقد أحوالهم، ويسأل عن غائبهم، ويعود مريضهم، وكان لا يعيب طعامًا صنعه آدمي؛ لئلا ينكسر خاطره، وينسب إلى التقصير فيه، وإذا بلغه عن الرجل الشيء المكروه، لم يصرّح باسمه، ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؛ حفاظًا على مشاعره، وكسبًا لوده، وكان صلى الله عليه وسلم، من كريم أخلاقه، إذا رد هدية اعتذر لصاحبها، تطييبًا لخاطره، ففي الصحيحين: أن الصعب بن جثامة رضي الله عنه، أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حمار وحش وهو بالأبواء، وهو مُحرِم، فرده صلى الله عليه وسلم، قال صعب: فلما عرف في وجهي رده هديتي، قال: (ليس بنا ردّ عليك؛ ولكنا حُرُم)، أي: أن المحرم لا يأكل مما صِيد من أجله. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، توفي ولده، فانكسر خاطره، وانعزل عن الناس، فلما فقده النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي لا أرى فلانًا؟ "، قالوا: يا رسول الله، بنيه الذي رأيته هلك، فلَقِيَه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن بنيه، فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه، ثم قال: (يا فلان، أيما كان أحب إليك، أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب الجنة، إلا وجدته قد سبقك إليه، يفتحه لك؟)، قال: يا نبي الله؛ بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي، لهو أحب إلي، قال: (فذاك لك). وكشفت الريح يومًا عن ساقَيِ ابن مسعود رضي الله عنه، فضحك القوم منه، فجبر النبي صلى الله عليه وسلم خاطره، وأعلى شأنه، وبيّن مكانته عند ربه، فقال: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، رواه الإمام أحمد، كما أن للصغار في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، نصيبًا من جبر الخواطر، مع ما يحمله من قيادة الأمة، وتكاليف تبليغ الدعوة؛ ففي مسند الإمام أحمد، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا، وكان لي أخ صغير، وكان له نِغر يلعب به، فمات، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فرآه حزينًا، فقال: (ما شأن أبي عمير حزينًا؟)، فقالوا: مات نِغره الذي كان يلعب به يا رسول الله، فقال: (يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ أبا عمير، ما فعل النغير؟). وأضاف: جبر الخواطر، يدخل فيه البشاشة والتهنئة، والمصافحة والمعانقة، والمشاركة في سرور وفرح، أو في بكاء وترح، فهذه عائشة رضي الله عنها، تذكرت في حادثة الإفك، امرأةً من الأنصار، شاركتها في حزنها بدمعات، كان لها أعظم الأثر والمواساة، وهكذا حال كثير من أساليب جبر الخواطر، فلا يُحتاج فيها إلى جهد كبير، فربما يكفي البعض ابتسامة صادقة، أو كلمة حانية، أو مصافحة، أو اعتذار عن خطأ، أو دعاء. وأردف: فليكن -أخي المبارك- لأهلك من جبر القلوب أوفر الحظ والنصيب، وخاصة الوالدين، والزوجة والأبناء، والإخوة والأخوات، فاجبروا الخواطر، وشاركوا الأحباب في المشاعر، وتذكروا أنها عبادة جليلة، يجازي عليها الجبار بأجور عظيمة، ففي صحيح مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي). وشدد "المعيقلي" على أن أحكام الشريعة، جاءت بمراعاة الخواطر وجبرها، وتطييب النفوس عند كسرها، فشُرعت الدية في قتل الخطأ؛ جبرًا لنفوس أهل المجني عليه، وتطييبًا لخواطرهم، واستُحبت التعزية لأهل الميت؛ لتسليتهم ومواساتهم، وتخفيف آلامهم، وفرضت زكاة الفطر؛ جبرًا لقلوب الفقراء، وليفرحوا بالعيد كما يفرح به الأغنياء فمراعاة المشاعر، وجبر الخواطر، جزء من شريعة الإسلام، وعبادة نتقرب بها إلى الرحمن، وصاحب النفس العظيمة، والقلب الرحيم، شَفوق بإخوانه، رفيق بهم، يحب لهم الخير، كما يحبه لنفسه، ويجتهد لهم في النصح، كما يجتهد لنفسه، ويتسع صدره لهم، ويتجاوز عن هفواتهم، ويلتمس الأعذار لأخطائهم، ويجبر خواطرهم، ويُطيّب نفوسهم، وأما صاحب اللفظ الجافي، والقلب القاسي؛ فقد مَضَت سُنّة الله تعالى، أن ينفر الناس منه، فلا يُقبل منه توجيه ولا دعوة، ولا تُسمع منه نصيحة، ولا يرتاح له جليس، ولا يأنس به ونيس، {فبما رحمة من الله لِنْت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وفي صحيح مسلم: من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (بينما نحن في المسجد، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، يعني: أكفف، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)، قال: فأمر رجلًا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه.