حذّر إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود الشريم؛ في خطبة الجمعة بالمسجد الحرام، من الابتزاز. وأكّد أنه عمل عدواني تقوده أنانية مفرطة للحصول على رغبات شخصية غير مشروعة من شخص مسلوب الإرادة أمام تهديدات بكشف أمور تدعوه إلى الانصياع كرهاً لما يطلبه المبتز منه. وقال "الشريم"؛ في خطبة الجمعة اليوم من المسجد الحرام: الناس بمجموعهم في سعة من أمرهم واسترخاء يستجلبونهما من الألفة والتواد والتراحم ما لم تسط عليهم ألسنة حداد فاحشة، وأيدٍ موجعة عابثة، فإن اللسان واليد معولان كفيلان بهدم لبنات بنيان المجتمع المرصوص أو شرخه، ولا يكون الاستقرار النفسي والعملي لمثل ذلكم المجتمع إلا بمقدار ما للمعولين من مضي في بنيانه؛ لذلكم بيّن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أثر اللسان واليد على الناس بعامة، وعلى الفرد بخاصة، وما يعنيه وصف الإسلام والإيمان لكل مَن يحملهما حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم". وأضاف: من أشر ما يوقعه اللسان واليد في أوساط الناس فعلة دنيئة، ونزعة خبيثة، مغروستان في قلب أسود مرباد، يجعل من ابتزاز الآخرين واستغلال ضعفهم سلماً يصعد عليه للوصول إلى مآربه القبيحة، وغاياته الدنيئة، إنه الابتزاز عباد الله، الابتزاز ذلك السلاح الفتاك الذي لا يحمله إلا الجبناء الضعفاء لاصطياد فرائسهم مادياً وأخلاقياً من خلاله، إنه سلاح خداع لا سلاح مدافعة؛ إذ لم يكُ قط معدوداً في أسلحة الشجعان الأقوياء الأسوياء. وأردف: الابتزاز عباد الله: عمل عدواني تقوده أنانية مفرطة للحصول على رغبات شخصية غير مشروعة من شخص مسلوب الإرادة أمام تهديدات بكشف أمور تدعوه إلى الانصياع كرهاً لما يطلبه المبتز منه، فيضطر مكرهاً إلى الاستسلام زماً لنفسه من كشف المستور أمام الملأ وإظهار ما لا يود ظهوره، من قِبل نفس خبيثة علمت من أين تؤكل كتف فريستها، وهذه لعمر الله الغلبة البغيضة التي استعاذ منها رسولنا وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الهَم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال". وتابع: الابتزاز خلق ذميم، وفعل لئيم، ينبئ عن نفس دنيئة وقلب متنمر، يظهر مخالب الإجرام أمام ذوي الضعف وقلة الحيلة، فهو خلق مليء بالقسوة والانتقام والاستغلال، وهو غلبة وانتصار مزوران بلا ريب. وقال "الشريم": الابتزاز عباد الله ميدان واسع تلجه نفوس شتى، قد اشترك أصحابها في الدناءة والغلظة، والعدوانية وحب الذات والصعود على أكتاف الآخرين، وهو لا يختص بذوي العداوة والخصومة وحسب، بل قد يلتاث به زوج مع زوجه، وأخ مع أخيه، وصديق مع صديقه؛ لأن النفس إذا خبثت لم يكن لها زمام ولا خطام، ويستوي أمامها الخصم والصديق إلا مَن رحم الله ممّن استمع إلى مقالة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فوعاها وأحسن بانتهائه إلى ما سمع، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال صَعدَ رسولُ الله -صلى الله عليه وَسلم- المِنْبر فَنَادَى بِصَوْتٍ رفِيع، فقال: "يَا مَعْشر مَنْ أَسْلَم بلسَانه ولمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلمين وَلَا تُعَيرُوهُمْ وَلَا تَتبعُوا عَوْرَاتِهم، فَإِنه مَنْ تتبعَ عَورةَ أَخِيهِ المُسْلمِ تتبعَ الله عَورتَهُ، وَمَنْ تَتبعَ الله عورتهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِه". وأضاف: أكثر ما يكون الابتزاز في عصرنا الحاضر في الأخلاق والأعراض، فهي الباب الخطير الذي يمكن أن يلج منه المبتز فيستسلم له الضحية، ولاسيما في زمن فورة وسائل التواصل الحديثة، التي يكثر فيها التصيُّد والتحرُّش والمخادعة، ويصول من خلالها ويجول ذئاب مسعورة وسرّاق متسلقون على أسوار الآخرين، ولا ريب أن العرض يعد إحدى الضرورات الخمس التي أجمعت الملل قاطبة على حمايتها؛ لذا ينبغي أن يعلم أن المبتز خارق تلك الضرورة، مقوّض أمن المجتمع الأخلاقي، فهو لص سارق، وصائل فاجر، قد وصفه وأمثاله ابن القيم؛ حين قال: "فالهوى إمامه والشهوات قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ويتبع كل شيطان مريد". وأردف: الابتزاز عباد الله فعل متعدٍ، فهو رقية إلى جرائم أخرى ربما بدأت بالسلب المالي وانتهت بالأذى الجسدي، كما أنه كالماء المالح كلما شرب منه الظمآن ازداد عطشاً، فالمبتز لا يكتفي بالمرة الواحدة، والضحية يستسلم بادي الأمر ظناً منه أنها نهاية الابتزاز، وإذا به يحصر من زاوية إلى أخرى، والمبتز بمثل ذلكم يزداد شرها في ابتزازه، فلا يضع سقفاً أعلى لطلباته حتى يوغل في الإجرام ويثخن في الضحية. وتابع: أكثر ما يُسطر في قضايا الابتزاز مع كثرتها تنوعها ابتزاز الفتى للفتاة، الفتى بفتوته والفتاة بعاطفتها، وأنى للعاطفة أن تقاوم الفتوة، بل أنى للأسير أن يفك قيد الآسر، بعد مراغمة في ميدان الوعود العاطفية والخداع الآثم، والفتى وإن كان جانياً صاحب خطيئة كبرى، فإن ذلك ليس بمعف الفتاة من المسؤولية حينما رمت بثقتها وعاطفتها تجاه مَن لم تعرفه في خلق أو دين أو أمانة، كيف لا وهي التي استسمنت ذا ورم، واستوثقت ذا قناع، فلا جرم أن يديها أوكتا وفاها نفخ، ومن لم يحكم باب بيته تركه عرضة للصوص، وما دافع ابتزاز المبتز إلا احتقاره للضحية واستضعافه إياها، لو لم يكن ذلك لما وجد ضالته عندها، وحسبكم بذلك دلالة على الشر المتأصل في قلب المبتز ومساومته على عورات الآخرين وما يخصهم، فإن المرء إذا كان ذا شر فإنه يحتقر الآخرين ثمة لا يبالي بحرماتهم، كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". وقال خطيب المسجد الحرام: كثير من المعنيين قد تحدثوا عن الابتزاز، فأسهب فيه أقوام وأطنب آخرون، ومنهم مَن وصفه بالمشكلة ومنهم مَن وصفه بالظاهرة، وأياً كان ذلكم فهو جريمة خلقية دون ريب، وسوءة ينبغي أن يأخذها المعنيون في المجتمعات المسلمة بعين الاعتبار، كما أن عليهم أن يعلموا أن الدواء لا يكون ناجعاً إلا إذا أُحسِنَ تحديد الداء، وتم سبر دواعيه ومذكياته. وأضاف: ينبغي أن يعلم أيضاً أن مدافعة الابتزاز ليست حكراً على أحد دون أحد، بل هي مهمة المجتمع بأكمله؛ كل حسب مسؤوليته، فالأسرة مسؤولة في توعية ذويها، والمدرسة مسؤولة، والنخب المثقفة مسؤولة أيضاً، والمعنيون الأمنيون مسؤولون. وأردف: دواء الابتزاز أمني وأخلاقي وتربوي، وكل واحد منها مكملٌ للآخر، فليس الجانب الأمني وحده كافياً، ولا الأخلاقي، ولا التربوي كذلكم، فأما الجانب الأمني فهو دواء علاجي بعد الوقوع، وأما الأخلاقي والتربوي فهما دواءان وقائيان قبل الوقوع، فإذا فات الدفع فلا أقل بعد ذلك من الرفع، والوقاية خير من العلاج باتفاق العقلاء.