ازد السيد صبحى أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن ابتغاء مرضاته؛ مبيناً أن الميزان عند الله ليس الأغنى ولا الأقوى؛ بل التقوى. فكم من مشهور في الأرض مجهول في السماء، وكم من مجهول في الأرض معروف في السماء، أخفى الله القبول لتبقى القلوبُ على وجل، وأبقى باب التوبة مفتوحاً ليبقى العبدُ على أمل، وجعل العبرة بالخواتيم لئلا يغترّ أحد بالعمل . وقال "بن حميد" في خطبة الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام اليوم: "معاشر المسلمين لقد جعل الله في المال ما تتوقف عليه حياة ابن آدم في بقائها، وكمالها، وعزها، وسعادتها، وعلمها، وصحتها، وقوتها، واتساع عمرانها، وسلطانها.. وجعله قِوام الناس والحياة؛ فقال عز شأنه: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً}؛ أي يستقيم بها المعاش، وتقوم عليها المصالح العامة والخاصة، ووصفه سبحانه بأنه زينة الحياة الدنيا؛ فقال سبحانه : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وحِفظُ المال في الإسلام هو أحد الضرورات الخمس التي يقوم عليها الدين، وتقوم عليها حياة الناس". وأشار إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل المال سبباً لحفظ البدن، وحفظ البدن حفظ للنفس، والنفس هي محل الدين، ومعرفةِ الله والإيمانِ به، وتصديقِ رسله؛ فالمال سبب عمارة الدنيا والآخرة، والشريعة لم تحرّم اكتساب المال وتنميته وحفظه؛ بل حثت على ذلك وحضت عليه؛ ولكنها حرمت الطرق الممنوعة في كسبه وإنفاقه، ومن أحب الله وأحسن مراقبته وقصد مرضاته فإنه يلتزم بشرعه. وأضاف أن الأمة تعظم وترقى في سماء العزة والمنَعة بخصال من أكبرها وأظهرها حفظُها لمالها، واقتصادُها في إنفاقها، وترشيدُها في استهلاكها. وأردف إمام وخطيب المسجد الحرام أنه لا فضل لأمة أن تضع على موائدها ألوان الأطعمة وصنوف المأكل؛ إنما فضلها أن يكون لها رجال سليمةٌ أبدانهم، قويةٌ عزائمهم، نَيّرةٌ بصائرهم، عاليةٌ طموحاتهم، عظيمة هممهم. وأكد "بن حميد" أن الإغراق في ملذات المطاعم، والتكالب على حطام الدنيا أنزلُ قدراً من أن يُتهافت عليه على نحو ما يظهر على بعض الناس في هذا الزمن؛ فالإسراف والإغراق في الاستهلاك يفضي إلى الفقر والفاقة، والمسرف يطلق يده في الإنفاق إرضاء لشهواته، واتباعاً لنزواته، وكم من بيوت أسسها آباء مقتدرون، وفي إنفاقهم راشدون؛ فورثهم أبناء مسرفون، أطلقوا لشهواتهم العنان، فتهدمت بيوتهم، وتبددت ثرواتهم، وتلك عاقبة المسرفين، ومآلات المترفين. وأوضح أن من البين المعلوم أن النبوغ والعبقرية والتطلع إلى المعالي لا تدرك إلا باحتمال المكاره، وركوب المصاعب، واقتحام الأخطار.. والمسرف ضعيف العزيمة، هزيل التطلع وأن الذين يبالغون في التشبع والامتلاء، وابتكارِ أفانين الطهي، وضروب التلذذ لا يصلحون للأعمال الجليلة، ولا ترشحهم هممهم القاعدة لعزة وتضحية، ومن ربط همته بطموح كبير، واشتغل لتحصيله انصرف عن فنون اللهو، وألوان الملذات، ولا ينال المنى إلا من هجر اللذائذ. وشدد خطيب الحرم المكي على أن الإسراف يجرئ النفوس على ارتكاب الجور والمظالم، لأن همَّ المسرف إشباع شهوته؛ فلا يبالي أن يأخذ ما يأخذ من طرق مشروعة أو غير مشروعة؛ فيمد يده إلى ما في يد غيره بطرق ملتوية، ووسائل مريبة فالغارق في ملذاته تضعف أمانته؛ فاتباع الشهوات عنده طاغٍ، والميول للملذات لديه غالب؛ فالإسراف يدفع بصاحبه إلى الإمساك عن بذل المعروف وفعل الخير؛ فملذاته أخذت عليه مجامع قلبه، فَهمُّه وهمته إعطاء نفسه مشتهاها في مطعومه، وملبوسه، ومركوبه، وأثاثه، والمسرفون يقبضون أيديهم، والكرام يبسطونها لذوي الحاجات من الفقراء، والمنكوبين، والمشردين ابتغاء رضوان الله وشعوراً بالمسؤولية، واعترافاً بفضل الله ونعمائه، مع ما يستبطنونه من بواعث المروة، وحقوق الأخوة، ونُبل المشاعر.. والسرف مما نهى الشرع عنه وحذر منه {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. وقال "بن حميد": إن السرف ظهر في العصور المتأخرة بشكل مزرٍ؛ فالواجد يسرف، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف، ويلبي كماليات هو في غنى عنها، وهذا من ماديات هذا العصر، وثقافته في غرائزه وشهواته وغفلته، وللإسراف أثر في الصحة وانحرافِها، وفي حديث المقداد بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن؛ بحسب ابن آدم لقيماتٌ يقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه. وأضاف: "يسير عالم اليوم بالإسراف في استهلاكه في طريق هلاكه، قطعان من البشر لا يمتد بصرها ولا بصيرتها أبعد من التراب وما يشبه التراب، تلتهم كلَّ ما يتاح لها من خلال ما عرف بحمى الاستهلاك؛ بل هو سفه الاستهلاك؛ إسراف في الملابس والأزياء، وجري وراء أدوات الزينة، ومحدثات الأزياء ومبتكراتها؛ في نفقات مرهقة، ومسالك مهلكة، وتصرفات سيئة وإسراف في المناسبات الاجتماعية في الأفراح وفي الأتراح، مغالاة في المهور والنفقات، والاحتفالات والمأكولات، وأغلب ما ينفق يذهب إلى صناديق القمامة، وملقى النفايات؛ فنعوذ بالله من كفران النعم.. وكذلك إسراف في السفر ونفقاته؛ ناهيكم إذا كان السفر محرماً عياذاً بالله، فيجتمع بلاء إلى بلاء". وأردف: "كذلك الإسراف في استخدام المرافق من الماء، والكهرباء في الإنارة، والتكييف. والماء أرخص موجود، وأعز مفقود، ويهدر بلا حساب؛ فاتقوا الله في نعم الله. وكما ينكر سرف الأفراد؛ فينكر سرف الجماعات والهيئات والمؤسسات والشركات والدول، وهو يحمل آثاراً وخيمة، وأبعاداً خطيرة على اقتصاد الدول وثرواتها؛ مما قد يؤدي إلى خسائرها، وإعلان إفلاسها". وتابع إمام وخطيب المسجد الحرام خطبته: "للبدن مطالب اتفق العقلاء على أن انتقاصها إضرار به، والمذموم الممقوت هو مسلك المسرفين؛ فالإسراف المذموم غير قصد الزينة، والملاذّ في حدود الاعتدال المدلول عليه بقوله سبحانه : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وسلوك الوسطُ هو مسلكُ عباد الرحمن المدلول عليه بقوله عز شأنه : {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}، والمذموم ما أُخذ من غير حِله، ووضع في غير محله، واستَعْبَد صاحَبه، وملك عليه قلبه، وشغله عن الله والدار الآخرة، وعن حقوقِ أهله وإخوانه". واختتم بالقول: "الذم لفعل ابن آدم وليس للمال، وويل لمن أبطرته النعمة وسعةُ العيش، فطغى واستغرق عمره في الشهوات، وإن على الإعلام بأنواعه ودعاياته كفلاً كبيراً، ومسؤوليةً عظمى في التوجيه، والتوعية، والترغيب، والترهيب، والإعلانات التجارية والاستهلاكية غيرُ الراشدة تتولى في ذلك كبراً عظيماً فيجب ترشيدها وتهذيبها ومساعدة الناس على حفظ أبدانهم وأموالهم".