شهد كاتب هذا التقرير بصفته الشخصية باعتباره خبيرًا في أكثر من ثلاثين قضية مرفوعة ضد إيران تطالب بالتعويض عن عمليات إرهابية كانت تدعمها. وقد أوضحت أنني لا أتبنى هذا الطريق لمواجهة دعم الدولة الإيرانية الإرهاب، بل أفضّل اتخاذ إجراء أكثر صرامة من السلطة التنفيذية بدلاً من استخدام المسار القضائي. تواجه عودة إيران إلى علاقاتها التجارية الطبيعية مع الغرب مخاطر جراء صدور أحكام قضائية أميركية بفرض تعويضات قيمتها 46 مليار دولار على حكومة إيران، بسبب دعمها هجمات إرهابية ضد أهداف أميركية. ومن المؤكد أن مجموعة من الأميركيين الذين صدرت تلك الأحكام لصالحهم سوف يسعون بنشاط لتحصيل تلك التعويضات. الأمر الطبيعي ألا يمكن ملاحقة الدول قضائيا في محاكم دول أخرى، ويطلق على هذا المبدأ «حصانة سيادية»، غير أن هناك استثناءات. على سبيل المثال في كل البلدان تقريبا يمكن ملاحقة أي سفارة ترفض تسديد أجر عامل الصيانة. ويرجع الأمر إلى كل دولة في تحديد الاستثناءات التي تخرج بها عن الحصانة السيادية، وفي معظم الحالات لا تخضع تلك الاستثناءات لاتفاقات دولية. سمح الكونغرس، بعد قلقه من عدم اتخاذ الرئيس الإجراءات اللازمة لمعاقبة الدول الراعية للإرهاب، بالامتناع عن تطبيق الحصانة السيادية في الدعاوى القضائية ضد حكومات مدرجة في قائمة وزارة الخارجية الأميركية للدول الراعية للإرهاب. وذلك على أن ترفع الدعاوى باسم الضحايا الأميركيين الذين سقطوا في تلك العمليات الإرهابية. أحيانًا ما يطلق على المادة الأصلية «تعديل فلاتو»، نظرا لأن عائلة فلاتو التي أصابها الغضب لمقتل ابنتها في حادث إرهابي في غزة ضغطت بقوة من أجل السماح برفع دعوى ضد إيران، على الرغم من أن الإجراء الذي اتخذه الكونغرس جاء أيضًا بدافع الغضب من الحكومة الكوبية لإسقاطها طائرة أميركية خاصة. على مدار العقد الماضي، اتسع نطاق هذه المادة عدة مرات لتسهيل عملية رفع مثل تلك الدعاوى، والحصول على تعويضات ضد الدول الراعية للإرهاب. كما أضيفت عدة ملاحق إلى القانون بسبب ملاحظة الكونغرس أن رؤساء الولاياتالمتحدة، جمهوريين وديمقراطيين، يعرقلون القضايا والمساعي للحصول على تعويضات. ينص القانون الأميركي على أن أي حكومة تتحمل مسؤولية أي عمل إرهابي يتم ارتكابه ضد مواطن أميركي، إذا كانت تلك الحكومة تقدم أي درجة من الدعم إلى الإرهابيين. على سبيل المثال، حكمت المحكمة الدستورية بأن تقديم تأشيرات وتسهيل الانتقال يعد أساسا كافيا لتحميل أي حكومة مسؤوليتها عن وقوع العمل الإرهابي. وعلى هذا القياس حمَّلت محاكم أميركية إيران مسؤولية رعاية عدد كبير من العمليات الإرهابية. كان دور إيران محوريا في كثير من الوقائع، مثل احتجاز رهائن أميركيين في لبنان في الثمانينات، لكنه كان هامشيا في عمليات أخرى حمّلتها المحاكم الأميركية مسؤوليتها أيضًا، مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 على مركز التجارة العالمي. على مدار فترة طويلة، كان أسلوب إيران تجاه تلك القضايا هو ادعاء تجاهلها، إذ لم يحضر ممثلوها إلى المحكمة للطعن في القضايا. وفي الأعوام الأخيرة، تدخلت إيران في بعض القضايا، مثل تلك التي تضمنت الآثار الإيرانية المرسلة في إعارة طويلة الأجل إلى جامعة شيكاغو. وقد اشتكى سياسيون إيرانيون في عدة مناسبات من تلك الدعاوى، كما فوّض مجلس الشورى الإسلامي برفع دعاوى ضد الحكومة الأميركية، بسبب أفعال مثل الإطاحة بحكومة مصدق في عام 1953. حتى الآن جمع محامون أميركيون جزءًا صغيرًا من الأموال التي حكمت المحكمة على إيران بدفعها. وعلى الرغم من تحصيل عشرات الملايين من الدولارات من أرصدة تتبع الحكومة الإيرانية التي تم تجميدها في البنوك الأميركية، فإن أكبر مبلغ تم تحصيله جاء من حساب متنازع عليه بين إيران والحكومة الأميركية، يشير إليه المحامون ب«رصيد إيراني مجمد»، في حين يقول المعارضون إنه عند تسوية هذا النزاع إما أن يسدد ذلك المبلغ إلى إيران (إذا فازت في النزاع)، وإما أنه سيعود إلى الخزانة الأميركية (إذا كسبت أميركا النزاع). لم يحقق المحامون الأميركيون نجاحا كبيرا في تحصيل التعويضات في دولة ثالثة، على الرغم من بذل محاولات كثيرة في أوروبا. ترجع بعض الأسباب إلى وجود خلافات سياسية حول كيفية التعامل مع إيران. ويكمن حاجز كبير في الاختلافات بين الأنظمة القانونية بين الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة. في العموم، لا يتم تحصيل التعويضات، التي صدرت بحقها أحكام قضائية، من دول أجنبية بطريقة آلية، إذ إن المحاكم في الدولة الأخرى تدرس عدة مسائل قبل تقرير ما إذا كانت ستسمح بالحصول على المال. تتشكك المحاكم الأوروبية في استثناء الإرهاب من مبدأ الحصانة السيادية. كما أنها غير متعاطفة مع الإجراء الأميركي بمنح مبالغ هائلة ك«أضرار عقابية» تختلف عن «أضرار تعويضية» عن الألم والمعاناة. من جانبها، تعتقد المحاكم الأميركية أن مثل تلك «الأضرار العقابية» يمكن أن تمنع إيران من القيام بمزيد من الأعمال الإرهابية ضد الأميركيين، لكن المحاكم الأوروبية لا توافق على ذلك الرأي. جدير بالذكر أن اتفاقية الجزائر عام 1981، التي أنهت حادث الاستيلاء على السفارة الأميركية، حددت مسارا قضائيا مختلفا تماما، حيث أسست محكمة في لاهاي للنظر في الخلافات المالية بين الأميركيين، ومعهم الحكومة الأميركية من جهة، والحكومة الإيرانية من جهة ثانية. لكن كان هذا التشريع محددا بالنزاعات التي نشأت في ذلك التاريخ. يشير الساسة الإيرانيون في بعض الأحيان إلى وجود مليارات في «أصول مجمدة» لدى الحكومة الأميركية، لكن هذا غير صحيح. يذكر أنه قبل أن تصل محكمة لاهاي إلى طريق مسدود منذ أكثر من عشرة أعوام، تمكنت من تسوية جميع القضايا فيما عدا واحدة تتعلق بما يجب أن تقدمه الولاياتالمتحدة تعويضًا لإيران عن الدفعات المقدمة في صفقات شراء أسلحة لم يتم شحنها بعد الثورة، إذ قدمت واشنطن مبلغا كبيرا قد يكون كل ما ستحصل عليه إيران في تلك القضية. يأمل محامو الولاياتالمتحدة في أن يتمكنوا من الوصول إلى سبل لتحصيل تعويضات بمبالغ كبيرة بمجرد أن تعود إيران إلى علاقات تجارية أكثر نشاطا مع الغرب. وليس من الواضح ما إذا كان ذلك ممكنا. من المحتمل أن تتم مصادرة الأموال التي تمر عبر البنوك الأميركية. وتتعلق إحدى القضايا المعروضة على المحكمة العليا بمبلغ 1.75 مليار دولار تم تجميدها أثناء نقلها باسم البنك المركزي الإيراني. حتى إذا أصدرت المحكمة العليا قرارا بإمكانية الاستحواذ على هذه الأموال، ربما لن تكون تلك سابقة أولى من نوعها، إذ إن المسألة أمام المحكمة تتعلق بامتلاك الكونغرس الحق في تمرير قانون يقلب قرار محكمة استئناف نيويورك (الدائرة الثانية) بعدم إمكانية الاستحواذ على هذه الأموال المنقولة، بمعنى أنه حتى إذا تم الاستحواذ على ذلك المبلغ فلن ينطبق الأمر على معاملات أخرى مشابهة إلا إذا أجرى الكونغرس مزيدا من التعديلات على القانون للسماح بعمليات الاستحواذ. مبدئيا يمكن أن يصل الرئيس الأميركي إلى اتفاق مع إيران لتسوية الدعاوى، التي من المحتمل أن تقل تعويضاتها كثيرا. كان ذلك هو الأسلوب المتبع في تسوية الأحكام التي صدرت ضد حكومة القذافي بسبب دعمها أعمالا إرهابية. أيا كانت الطريقة التي قد يسمح بها القانون بتنفيذ هذا الإجراء، سيكون من الصعب أن نرى واشنطن أو طهران قادرتين سياسيا على التفاوض للوصول إلى تسوية. ترفض إيران الدعاوى تماما. ومن المؤكد أنها لن توافق على تسوية كبيرة مثل تلك التي وصلت إليها طرابلس من قبل، بل ستكون هناك عاصفة نارية من المعارضة في إيران إذا تم دفع أي أموال. أما من جانب الولاياتالمتحدة فسوف يتطلب الأمر أن يقترح سياسي أميركي شجاع إعفاء إيران من تقديم تعويضات كاملة لضحايا الإرهاب الأميركيين. لذلك على الأرجح ستحاول الحكومتان تجاهل الدعاوى القضائية، وقد يؤدي ذلك إلى استمرار الكونغرس في تمرير تعديلات تسهل من مساعي الحصول على تعويضات، مما يثير إزعاج السلطة التنفيذية التي تعد مثل تلك الإجراءات تدخلا فيما يعد من نطاق سلطات الرئيس. لم تحظ تلك الدعاوى باهتمام عام كبير، سواء من السياسيين أو الشركات التي تدرس الدخول في السوق الإيرانية. وإذا لم ينجح المحامون في جهودهم فمن المحتمل أن يستمر الوضع كما هو. لكن إذا حصل المحامون على بعض الانتباه - على الأقل بشيوع الخبر إذا لم يتم الحصول على تعويضات بالفعل - فسوف تثبط مساعيهم الشركات الغربية، خصوصا البنوك، من التعامل مع إيران باعتبارها دولة يمكن التعامل التجاري معها بطريقة طبيعية. ويمكن أن يصبح ذلك مصدر إزعاج كبير في العلاقات الأميركية الإيرانية. * كبير زملاء «مورننغ ستار» ومدير الأبحاث في معهد «واشنطن لسياسات الشرق الأدنى».. (يُنشر بالتزامن مع الشقيقة مجلة «المجلة»).