* كان هناك أحد الصحابة رضوان الله عليهم قد ابتلي بشرب الخمر ؛ وكثيرًا ما يؤتى به في ذلك ، وقد خرج مع المسلمين لغزوة خيبر عند فتحها ؛ وكانت بها خمورٌ أراقوها فضعفت نفسه أمامها فشرب منها ؛ وقصته مروية في «صحيح البخاري» من حديث أمير المؤمنين عمر*بن الخطاب رضي الله عنه أنّ رجلًا على عهد النّبي صلى الله عليه وسلم*كان اسمه عبد*الله وكان يلقب حمارًا ، وكان يضحك النّبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشرب فأتي به يومًا ، فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم : اللّهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النّبي صلى الله عليه وسلم : «لا تلعنوه ، فو الله ما علمت إلّا أنّه يحب الله ورسوله». في هذه القصة يظهر لنا جليًّا المنهج النّبوي في التّعامل مع المذنبين والمقصرين وحرصه صلى الله عليه وسلم على غرس الإيمان في قلوبهم. وممَّا لا شك فيه أنَّ هذا الصحابي ؓ قد فاق في أعماله القلبية الكثير من أعماله الصّالحة الظاهرة ؛ مما جعله يستحق هذه الشّهادة النّبوية. مهما أوغلت النّفوس في الذنوب والمعاصي ظاهريًا فستظل بارقة الإخلاص والخير والأمل تلوح في الأفق وتقود صاحبها إلى أعمال البر والخير. وهذه قصة أخرى تؤكد ما سبق ذكره وهي لبغي من بني إسرائيل تمارس الرذيلة وتقع في الكبيرة ؛ فتجد في طريقها كلبًا يلهث من شدّة العطش في يوم شديد الحرارة بجوار بئر عميق ، فنزلت في البئرِ وملأت خفها بالماء فسقت هذا المخلوق البائس فأدركتها رحمة الخالق عزَّ وجل فغفر لها ، كما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر : «أن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار ، يطوف ببئر قد أدلج لسانه من العطش ، فنزعت له بموقعها فغفر لها». قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معلقًا على هذه القصة في «منهاج السنة» (221/6) : (فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها ؛ وإلّا فليس كل بغي سقت كلبًا يغفر لها ، فإنّ الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص). وعليه فلا ينبغي أن نواجه أصحاب المعاصي بالاستحقار والكراهية والدّعاء عليهم والشّماتة بهم وقد جاء في الأثر : «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك». إذا ما الدهر جر على أناس بكلكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا والمؤمن لا يعجب بكثرة عمله ولا يغتر به ؛ ولا تزهو نفسه إذا رأى غيره على المعصية ، ويربأ بنفسه من تعيير المقصرين ، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في «مدارج السالكين» (1/ 331) : (إن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثمًا من ذنبه وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النّفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذّنب ، وإن أخاك باء به ، ولعل كسرته بذنبه ووقوفه بين يدي ربه ناكس الرّأس منكسر القلب أنفع له وخير من صولة طاعتك وتكثّرك بها ، والمنّة على الله وخلقه بها). وتُعدُّ الشّماتة بأهل المعاصي والذّنوب والقيام بلعنهم من إعانة الشيطان عليهم لما ثبت في «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى النّبي صلى الله عليه وسلم بسكران ، فأمر بضربه ، فمنا من يضربه بيده ، ومنا من يضربه بنعله ، ومنا من يضربه بثوبه ، فلما انصرف ، قال رجل : ماله؟! أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم». قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في «الفتح» (78/12) : (وفيه الرد على من زعم أنّ مرتكب الكبيرة كافر ؛ لثبوت النّهي عن لعنه والأمر بالدّعاء له ، وفيه ألّا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله ، مع وجود ما صدر منه ، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله ، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفي كماله). فما أجمل من أن ينشغل المسلم بإصلاح نفسه وتزكيتها وتقويمها قال تعالى : ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: 9] . وأن يجتنب الحديث عن الناس وأذيتهم وازدراء العاصين منهم بتقنيطهم من رحمة الله تعالى ؛ فبذلك يكمل خلقه ويصلح عمله وترتاح نفسه وتحسن سيرته وسريرته : صَلاحُ أمركَ لِلأخْلاقِ مَرجعُه فقوِّم النَّفس بالأخلاقِ تستقمِ