✒ذات يوم؛ و لأنها لازمت الصمتَ كثيرًا، قيل عنها: متكبرة، ليس لها لسان، ليس لديها علم، إلى آخره من العبارات.. من هنا أقول لهؤلاء: الصمت في كثير من الأحيان بلاغة، و حكمة، لا يدركها إلا من صمت، أو اعتاد الصمت. و لو تأملنا الصمت، لوجدناه نطقًا في حقيقته، ينقل للطرف الآخر و للآخرين ما لم ينقله الكلام. و لا أروع و لا أجمل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ...وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ) قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) هنا تتجلى لنا أهمية الصمت في موضعه، و ليس هناك ثمة حاجة لكلام زائد لا فائدة منه. كثيرون عبَّروا عن الصمت : فهناك من يرى فيه (حكمة)، و هناك من قال عنه ( لغة الحب)،و أنا أجزم أن هذه اللغة إن لم تكن وفق ما شرع الله، فهي خاسرة، و هناك من قال: إنه هيبة، و لغة العظماء، و البعض قال: الصمت (عقاب) و الكثير الكثير.. و حقيقة أيها القراء: الصمت (فن) فن يعفي أداة الكلام( اللسان) و يوكل المهمة إلى لغة العيون لمن يدركها،و إلى إحساس لا يملكه إلا فطن. و إذا لم يكن الصمت في موضعه، فهو، و الكلام سواء. إذا لم يَضِقْ قوْلٌ عَلَيكَ فقل به.. و إن ضَاق عنكَ القوْلُ فالصّمتُ أوسعُ.. أيها الكرام: الصمت في موضعه حكمة يديرها العقل، سيد الموقف.. وَ قَدْ يُرجى لِجُرحِ السيفِ برءٌ وَ لا برءٌ لِما جَرَحَ اللسانُ جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ وَ لا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ وَ جرحُ السيفِ تدملُهُ فَيَبْرى وَ يبقي الدهرُ ما جَرَحَ اللسانُ أيها الفضلاء: تأملوا قول نبينا صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بِالصُّرَعَةِ ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه البخاري هل ترون ذلك الذي صمت و ملك نفسه غير قادر على الانتقام؟!! لكنه الصمت حينما يكون أروع سلوك، صمت بالقول و الفعل.. و قد قيل : (من يتجاهل الإساءة ليس عاجزا عن ردها .. ولكنه عرف قدر المسيء فتجاهله ... وعرف قدر نفسه فارتقى بها ). هذا هو الارتقاء، و صمت القول و الفعل الذي يجب أن يكون، فإن كنت لابد ناطق، فتذكر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} الصمت بلاغة حينما يكون له هدف، و يؤدي غرضًا مهمًا، و من أروع ما قيل في التواصل، و فن الاستماع، ذلك الوصف للصامت المصغي : من لى بإنسان إذا أغضبته ... وجهلت كان الحلم رد جوابه ... وتراه يصغي للحديث بطرفه ... وبقلبه ولعله أدري به ... و قد قيل : تفكر في كون الله خلق لنا أذنين و فمًا واحدًا؛ لنستمع أكثر مما نتحدث. أخيرًا : الصمت ليس عيًّا؛ لكنه استراحة محارب، يرجو الظفر بالحسنيين.. ما ذلَّ ذو صمت وما مِن مُكثرٍ.. إلَّا يَزلُّ وما يُعاب صَمُوتُ.. إن كان مَنطقُ ناطقٍ مِن فضَّةٍ.. فالصَّمت دُرٌّ زانه الياقوتُ..