ارتفع أخيرا كثير من التوقعات غير المتفائلة بأداء الاقتصاد العالمي خلال العام المقبل، وذهبت في تقديراتها إلى اقترابه من دخول مرحلة ركود خلال النصف الثاني من 2020، والبعض الآخر حذر من احتمال تحول ذلك الركود إلى كساد طويل الأجل. استندت تلك التوقعات إلى تفاقم حالة الحرب التجارية بين أكبر قطبين اقتصاديين "الولاياتالمتحدة، الصين"، التي تركت وستترك آثارا قوية في مختلف اقتصادات وأسواق العالم، عدا ما تعانيه أسواق الدين العالمية من تذبذبات حادة انعكست على انقلاب معدلات الفائدة قصيرة الأجل مقارنة بطويلة الأجل، إضافة إلى الإشارات العكسية التي حملتها السندات الحكومية لعديد من الدول بوصولها إلى مستويات سلبية "14 تريليون دولار". لن يخرج أحد بفائدة تذكر من الجدال الدائر الآن بين الفرقاء المختلفين، هل ستحدث تلك التوقعات أم لا؟ بقدر ما أن الإجابة عن السؤال الأهم: هل اقتصادنا الوطني متأهب لأي من تلك التوقعات والاحتمالات المنتظرة للاقتصاد العالمي؟! وهو السؤال الذي ينطلق من الثقل الدولي الذي يتمتع به الاقتصاد السعودي، وأحد أبرز الشركاء التجاريين لأهم وأكبر الاقتصادات حول العالم، فالصين تمثل لاقتصادنا المستورد الأول بنسبة 13 في المائة من إجمالي صادراتنا، والولاياتالمتحدة تمثل المستورد الخامس لصادراتنا بنسبة 8.8 في المائة من الإجمالي، والاقتصادان يمثلان أعلى من 24.3 في المائة من إجمالي التبادل التجاري لاقتصادنا وفقا لبيانات 2018. ولا حاجة إلى سرد مزيد من الأسباب التي تثبت حجم الارتباط الكبير بين اقتصادنا الوطني بما يجري خارجه، وأنه جزء رئيس ومحوري على مختلف مستويات التعاملات الدولية، وهو الأمر الذي تهم معرفته من يرى عدم تأثرنا بما يجري خارج الحدود، ورغم انخفاض أهمية إقناعهم من عدمه، إلا أنه قد يتحول إلى عامل جوهري في ضرورة الاستعداد اللازم، واتخاذ التدابير والإجراءات الواجب اتخاذها لمواجهة ما قد ينتج من آثار لتلك الأزمة العالمية المحتملة، وللحذر من الركون إلى تلك التنبؤات غير الصائبة، أو حتى ممن قد تذهب به أوهامه إلى أن حدوث مثل تلك الأزمة سينعكس إيجابيا على اقتصادنا! وهو القول الذي يصعب القول به أو تصديقه في جزء من عالم اليوم الشديد الترابط. كان من أهم ما تم بالنسبة لاقتصادنا طوال أكثر من ثلاثة أعوام مضت، قيامه بإجراء إصلاحات واسعة وعميقة، أسهمت رغم ما مر به الاقتصاد الوطني من آلام عديدة، في إعادة تهيئته بصورة أفضل مما كان عليه، على الرغم من عدم وصول تلك الإصلاحات إلى أهدافها النهائية، إلا أنها أعطت الاقتصاد مناعة أقوى مما كان عليه قبل تلك الإصلاحات. حيث أثبتت الوقائع والتحديات الراهنة، استحالة استدامة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي المنشود، بالاعتماد فقط على مداخيل مورد ناضب كالنفط، وأن احتياجات وتطلعات الاقتصاد والمجتمع الراهنة ومستقبلا، أصبحت تفوق كثيرا ما يغدقه النفط من دخل على الاقتصاد، هذا أولا. ثانيا: إن الأوضاع العتيقة السابقة للاقتصاد طوال خمسة عقود مضت، كما أنها أنتجت إيجابيات عديدة تنمويا واقتصاديا واجتماعيا، إلا أنها أيضا أفرزت تشوهات بالغة الخطورة، وأظهرت مؤشرات الاقتصاد عبر العقود الخمسة الماضية، تضاؤل الإيجابيات مقابل تصاعد التشوهات عقدا بعد عقد، الأمر الذي اقتضى بدوره ضرورة قصوى لإجراء تغييرات وإصلاحات جذرية هيكلية للاقتصاد، تستهدف وضعه على طريق آخر أكثر أمانا واستقرارا، ستتصاعد نتائجه الإيجابية على الاقتصاد والمجتمع عاما بعد عام، وصولا إلى نهاية مرحلة التحولات بعد عقد من الزمن من تاريخ اليوم. إنه طريق بالغ الأهمية للتحول والإصلاح وإن حمل ذلك في بدايته بعض المشاق على الجميع، إلا أنه سيكون أخف وطأة بدرجات كثيرة من وطأة النتائج المريرة لنهاية الطريق القديم، المعتمد بدرجة كبيرة جدا على دخل النفط فقط! إنها عبارة فضفاضة جدا "علينا الاستعداد لما قد يحدث في الاقتصاد العالمي"، ويمكن أن تودع فيها ما لذ وطاب من عشرات أو مئات التوصيات والنصائح، إنما قد لا نجني منها شيئا إذا لم تترجم الأقوال إلى أفعال على أرض الواقع، وإذا لم تتم ترجمة تلك الجهود وفق منظور مؤسساتي خاضع لحوكمة ومراقبة وإشراف مباشر ومستمر، وهو الأمر الممكن تحقيقه دون الحاجة إلى إعادة اختراع العجلة من جديد، ممثلا في وجود مجلس الشؤون الاقتصادية برئاسة ولي العهد الأمين، ودون الذهاب وراء بعض الأصوات التي تطالب بتأسيس هيئة أو لجنة لتولي مهام الاستعداد لما قد يحدث خارجيا. الاقتصاد الوطني قطع أشواطا جيدة على طريق إعادة تأهيله وهيكلته، والمطلوب استمرار تلك الجهود بوتيرة أسرع، إنما الجديد هنا هو ضرورة الأخذ في الحسبان الانعكاسات المحتملة على اقتصادنا، وعلى القطاع الخاص والمجتمع في ضوء هذه المستجدات والاحتمالات المرتقبة. كما يعد مهما الانتباه إلى أننا لم نتجاوز بعد عديدا من التحديات التنموية التي نواجهها اليوم كالبطالة بين صفوف المواطنين والمواطنات، ومشكلة الإسكان وتدني تنوع قاعدة الإنتاج المحلية، إضافة إلى أوجه الضعف التي يعانيها القطاع الخاص، وغيرها من التحديات التنموية الأخرى المعلومة. نعم قطعنا أشواطا في طريق الإصلاحات الاقتصادية، لكننا لم نصل إلى نهاية الأهداف الموضوعة، وأيضا ليس اقتصادنا هو الاقتصاد ذاته الذي كان عليه قبل عدة أعوام باعتماده أكبر من اليوم على عائدات النفط، وفي ظل غياب إصلاح ما تم إصلاحه اليوم، باختصار شديد، لا نزال في منتصف الطريق أو قبله بمسافة، وهذا يعني أننا لسنا في منطقة قصية من العالم لنكون بمنأى عن آثار ما يتم التحذير منه في شرق الأرض وغربها، وأننا أيضا لسنا كما يصور البعض الاقتصاد الأكثر استفادة مما قد يطرأ على اقتصادات وأسواق العالم! والله ولي التوفيق.