شعب المملكة العربية السعودية، بفضل الله تعالى على الناس بهذه الدولة، وما قامت عليه من ركائز عقدية وتشريعية وأخلاقية ، ظل طيلة العقود العشرة الماضية من حيث الإجمال، وفي أكثر الأحوال من حيث التفصيل أيضا ،أكثرَ الشعوب الإسلامية التزاما بالإسلام عقيدة وشريعة وآدابا ؛ فالالتزام العقدي بتوحيد الخالق كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه بأجمل مظاهره من تجنب الابتداع المفضي إلى الشرك ،ومنع جميع صور البدع وذرائعه، فلا قبور تُشد لها الرحال، ويُسأل ساكنوها مع الله ولا حضرات خرافية، ولا أيمان بغير الله ولا مشعوذين يخدعون الناس باسم الدين ولا طرق ولازوايا وخلاوي يُرَبى الناشئة فيها على الانقياد للشيوخ دون الدليل الشرعي. والالتزام بالشريعة ظاهر في طول البلاد وعرضها ؛ فلا تجد من أهل وير ومدر ولا مدينة أو قرية إلا وأهلها يعبدون الله تعالى كما شرع وكما جاء بذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من غير إفراط ببدعة أو تفريط بترك واجب . وأما الأخلاق ، فيتجلى مزيد تميز الشعب السعودي فيها بالتزامه الأقوى بنظام الأسره كما أقره الإسلام وفهمه السلف الصالح وساروا عليه ، وامتناعه عن كل ما يخرق أو يهدد هذا النظام الاجتماعي العظيم من نزع للحجاب أو إقرار للاختلاط بين الجنسين بصوره الممنوعة تحت أي ذريعة ، وكذلك التزامه بولاية الرجل وقوامته وقيادته للأسرة . وجاءت الأنظمة العليا والأنظمة المتفرعة عنها خادمة لهذه القِيم كلها ومعززة لها ، تتجلى في أكثر من عشرين مادة في النظام الأساسي للحكم لعل جِمَاعَها في المادة السابعة منه إذ تقول:" يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة". وكان علماء هذه البلاد الذين جعلتهم الدولة منذ قيامها مرجعاً للفتوى العامة والخاصة قد أدركوا منذ وقت مبكر :أن هذه الدولة وشعبها بما يحملان من نظام شرعي عريق وقِيَمٍ راسخة غريبان في هذا الكون ، شرقيِّه وغربيِِّه ، والأصل في طبائع الناس مع الغرباء:أن لا يَدَعُوهم في حالهم التي ارتضوها لأنفسهم ولو كانت أخير الأحوال وأنسبها ، هذا شأنهم مع الغرباء في طبائعهم ولباسهم ولهجاتهم ، وهو أيضا شأنهم مع الغرباء في أخلاقهم وأديانهم وآدابهم ؛ لذلك أيقن أهل العلم أن دولةً غريبةً عن هذا العالم في طبيعة نشأتها وأصولها التي بنت عليها فهمها لدينها وتطبيقها له ،لن يتركها العالم تمضي وشأنها ، مسلمُهُم وكافرهم ، أما المسلمون فكثيرون منهم ينقمون عليها محاربتها للخرافةِ واستعبادِ العقول باسم الدين ، وقيامها بأمر الذب عن علوم الشريعة بما تنفيه عنها من تحريفِ الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ومِن نشرها لمنهج السلف الصالحين في فهم الدين أبيض نقياً لا يزيغ عنه إلا هالك كما جاء به رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم . وأما الأمم الأخرى وعلى رأسها الصهوينية و الصليبية العالميتين ، فقد أصبح أسمى غاياتهم نشرُ القِيَم الأوربية الجديدة والتي سادت أوربا بعد الثورة الفرنسية ، ثم سادت العالم كلَّه بعد موجة الاستعمار الأوربي لجميع المعمورة ؛ لكن تلك القيم الفاسدة لم تطأ بلادنا كما لم يطأها حاملوا تلك القيم من المستعمرين ؛ لذلك كانت عَصِيَّة على استعمارهم الفكري والأخلاقي والديني كما كانت من قبلُ عصية على استعمارهم العسكري ؛ فأن يجعلوا من هَمِّهِم وهِمَّتِهم غزوَها قِيَمِيَاً وأخلاقياً ليجعلوا منها قطعة تابعةً لهم في ذلك كسائر بلاد الدنيا أمرٌ معروف من طبائع الأمم منذ الأزل ، ومعروف كذلك من سَوَالِف تصرفات الأمم الغربية كما فعلوا مع الدولة العثمانية حين اشتغلوا عليها بنشر قِيَمِهِم المناقضة لقيمها في أواخر عهدها حتى يؤدي صراع التناقضات داخلها إلى انهيارها ، كما هو مقتضى جدلية الفيلسوف الألماني هيجل والتي يؤمن بها معظم المنظرين والمخططين الاستراتيجيين في أوربا ؛ وقد أدرك ذلك علماء بلادنا من حال الغرب مع دولتنا منذ نشْأَتِها . نعم أدركوه قديماً في حين لم يتضح ذلك للكثيرين من المثقفين والمفكرين إلا قريباً ؛بل منهم من لم يتضح له الأمر بعدُ ولله الأمر من قبل ومن بعد. وكما عَمَدت الدولة إلى تحصين الناشئة بالعلم الشرعي عبر مناهج التعليم ومحاضن الدعوة ، استكمل أهل العلم هذا المسار وعملوا على تحصين المجتمع من كل طارئ من عادات وطبائع وتقنيات تأتيهم من الغرب ؛ وذلك بفتاوى تُنْبِئُك عن عمق معرفتهم بالواقع واستشرافهم للمآلات ، فلا يقبلون كل ما يأتيهم جملة كما لا يردونه جملة ، فيمنعون ما هو وسيلة لتغريب الأمة وإضاعةِ قِيَمها وأصالتِها ، ويُقَدِّمون البديل عنه ما استطاعوا لذلك سبيلا ، أو يُرشِدون أهل الاختصاص بالبحث عن البديل . وهذا ما كانوا يُطلقون عليه"سد الذرائع" وكانوا يطلقون هذا المصطلح ويستخدمونه في وزن كل جديد طارئ ، حتى ضاق بهم من لا يتبصرون في مآلات الأمور ذرعا ، وأصبحوا يهاجمون هذا الاستدلال ، ولم يُقدروا أنه هو السد المنيع الذي أبقى الله به هذه الدولة وشعبها راسِخَيْن في وجه عواصف العولمة والتغريب التي اكتسحت كل العالم ولم تجد حصناً منيعاً للأصالة والرسوخ إلا هذه الدولة ، شهد بذلك هملتون جب قديماً وفرانسس فوكوياما حديثا ، وشهادتنا لأنفسنا أبلغ من شهادتهم لنا لكنني أُذَكِّر بها من باب"والحق ماشهدت به الأعداء" قاموا بذلك أولاً مع تعليم النساء ، فنجحت الدولة بتأييدٍ من أهل العلم في إنشاء نظام تعليمي نسائي رائد خال تمام الخلو من أي مخالفة شرعية ،واستطاعت المرأة السعودية فيه وبه أن تكون الأُولى في العالم الإسلامي من حيث نسبةُ التعليم ونسبةُ الشهادات العليا ، وبلغت من خلاله الريادة العالمية في كثير من التخصصات التقنية والصحية والاجتماعية والشرعية العالية . وجاءت الإذاعة والتلفزيون فوقفت الدولة في أكثر إنتاجهما مع أهل العلم في منع ما يؤدي إلى تسرب القِيَمِ المضادة لبناء الدولة الديني والاجتماعي والسياسي ، فكانا- الإذاعة والتلفاز- منارتين للدين والقِيَم والإصلاح ، ولم يكن ما شابهما من مخالفات مؤثراً كبير التأثير على التربية القِيَمِية في البلاد لأن المناهج الدراسية العظيمة والنشاط الدعوي والتوعوي الذي تتبناه مؤسسات الدولة كلها ولاسيما التربوية والدينية منها كانت تحُول دون أن يكون للمنتَج الإعلامي ذي القِيَم الوافدة كبير تأثير على المجتمع والنشء. وجاء عالم الأطباق الفضائية فأدرك العلماء أن في طيات هذا العالم الكثير من الأخطار على الأخلاق والقيم ، ورأوا أن فتح فضاء بلادنا لجميع القنوات يعرض أبناءنا للاختطاف الفكري ، وهو أمر خطير على الأمة عقدياً وعملياً وفكرياً وقيمياً وسياسياً. كان البديل عن فتح الفضاء السعودي متاحاً جداً عبر أنظمة وتقنيات عديدة يمكن إيجادها ؛ بل هي موجودة في الواقع ومستخدمة لدى الدول الأوربية والولاياتالمتحدة ؛ لكن للأسف كان خيار فتح الفضاء السعودي هو الأقوى ، وفعلاً وجدنا أن القِيَم في مجتمعنا كانت مستهدفة بشكل واضح من قنوات كثيرة تتوجه بالعمل على التغيير القِيَمِي والتغيير السياسي للعالم العربي بشكل عام وللسعودية بشكل أخص ، حتى إن إعلان تلك القنوات عن برامجها رغم انطلاقها من خارج حدودنا كان بتوقيت السعودية كتعبير عن مدى الاهتمام بالوصول إلى شعبها بُغْيَة التأثير عليه وتغييره ، وكان النشاط عظيماً ومكثفاً من أجل إضعاف تدين المجتمع السعودي وإضعاف التزامه بقيمه. والحقيقة أن هذا الضغط الفضائي المكثف من العديد من القنوات ومنها ما هو مملوك لرجال أعمال سعوديين قد أدى شيئاً من المطلوب منه فحصل تراجع فعلي في الالتزام الديني والقِيَمِي ، لا يمكن توثيقه إحصائياً لعدم وجود مشاريع إحصائية تخدم في هذا الاتجاه ؛ لكن المتتبع يُمكنه ملاحظة ذلك . وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي فكان موقف العلماء منها موقفَ العارف بمآلاتها والمحذر منها ؛والتحذير منها لم يكن يعني تحريمها على الإطلاق ؛ بل كان يعني المبادرة بضبطها وتلافي ما يمكن أن يأتي منها من أمراض اجتماعية وأخلاقية يحتمها واقع تلك الوسائل المشاهد ؛ لذلك جاءت توصية العلماء في إحدى مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي بمكة في عام 1428كما أتذكر بإنشاء مواقع تواصل مشابهة لفيس بوك وتويتر تقوم عليها الدول الإسلامية ، لتكون حائلاً دون تشرب الشباب للقيم التي يمكن تصديرها لهم عبر تلك المواقع ؛ لكن ذلك لم يحصل؛ والعجيب أن هذا المقترح الذي عُد حين إطلاقه محالاً ونوعاً من التشدد قامت بإنشائه دولة مثل الصين لتحول بين شبابها وبين التأثر بما تصدره الولايات المتخدة من فكر سياسي . ووفق الله دولتنا لاستئناف ابتعاث طلابنا إلى الخارج إيماناً بحتمية الاستفادة مما لدى الأمم من علم وتقدم وتوطين كل ذلك في بلادنا ، فكان موقف أهل العلم موقف المساند لهذا الأمر مع المطالبة بضبطه من حيث التحكم في نوعية المبتعثين قبل ابتعاثهم وتكثيف لجان الإشراف عليهم والمتابعة القوية عند وصولهم ، وكانت الدولة فَطِنَة للاستجابة إلى ذلك؛ لكن غزارة عدد المبتعثين وشيء من التفريط لدى بعض موظفي الأجهزة المسؤولة عَسَّرَ من هذه المهمة فنتج عن الابتعاث إلى جانب الكثير من الخير الذي شهدناه بأم أعيننا حالات مشهودة أيضاً من الانحراف الفكري منها في القِيَم والأخلاق ومنها ما هو في السياسة وصدق الانتماء. نعم يوجد اليوم انحراف ديني وقِيَمِي وأخلاقي يصل إلى الكفر والإلحاد بين شبابنا ، ويصل إلى جحد شرعية الدولة والولاء لها ؛ قليل من هؤلاء عبروا بوضوح عن أفكارهم حين غادروا البلاد وأظهروا مناصبتها العداء دينياً وأخلاقياً وسياسيا ، وآخرون لازالوا بيننا ، لا نستطيع تقدير حجمهم بالضبط ، لكن المؤكد للمتابع أنهم ليسوا بالقليل . إننا اليوم في حالة غزو قِيَمِي خطير وصلت كتائبه إلى دورنا وغرف نوم أبنائنا ، والمِصدات التي وضعها حُكامنا وعلماؤنا ، وتلك الأخرى التي تم اقتراحها ، نحن ومن داخلنا ساهمنا في اختراق ما كان مشيداً منها وحُلْنا دون إنشاء ما لم يُنشأ بعد . وهذا الغزو الذي وصل إلى ما وصل إليه لازال في إمكاننا إخراجه وتحرير مخادع أبنائنا وبناتنا منه ، وذلك بأن ننقلب وبشدة وبقوة على مصادره . إن الحديث الفارغ عن مشكلة الخطاب الديني وأنها هي وراء كل ما نشاهده من انحراف فكري وديني ليست أكثر من هُرَاء وهروب عن الحقيقة وتعمد إلقاء اللوم على الجانب الذي يرى البعض أنه الجانب الأضعف وهم العلماء ؛ أما الحقيقة فإن صد هذا الغزو ليس ذا خطوة واحدة بل ذو خطوات تبدأ أولاها بإعادة المكانة لأهل العلم وللدعوة التي قامت عليها هذه الدولة ، عقيدةً وفقهاً، تلك المكانة التي سعى لإسقاطها طرفان عدوان للغير عدوان لبعضهما : الأولون: أرباب التكفير والتفجير والإرهاب ودعاة الثورات وتهييج الدهماء. الآخرون: دعاة الفكر العلماني واليساري والتغربي . كلا هذين الطرفين جنيا على مكانة العلم والدعوة في النفوس ، مع تقصير لاشك فيه لدى دعاة الوسط وضعف في الأداء وافتقار لاستراتيجية المواجهة . أما الخطوة الثانية: فهي حجب المنابر الإعلامية فضائياً وإلكترونيا ، تلك المنابر التي يأتي من داخلها الغزو القيمي وينطلق إلينا منها رصاصه الخارق للبيوت والأسوار . الخطوة الثالثة: دعم البدائل الإعلامية والإلكترونية والفنية وإثراؤها وأن تكون معززةً لتدين الشباب والتزامه مجيبة عن تساؤلاته منمية لثقافته ومهاراته ، مبعدة إياه عن الفكر الوافد الدخيل.