ليس من السهل الحديث عن العلاقات السعودية الإماراتية، فتحليل هذه العلاقات في واقعها اليوم تأخذك بعيدا عن التفسير التاريخي لها، أو حتى الجغرافي. والمسألة ليست مجرد توافقات سياسية بسبب تلاقي مصالح ومواقف مشتركة، بل المسألة عميقة جدا، ويحتاج سبرها إلى مفاتيح غير عادية من التأمل والفهم. لكن من الواضح للعيان أن هذه العلاقات متينة جدا، لدرجة تصهر معها الخلاف في الرأي أو التوجهات السياسية، بل لدرجة أنها تجذب هذه التوجهات نحوها لتدور في فلكها، فلم تعد الخيارات السياسية أو الاقتصادية هي التي تعزز العلاقات وتجعلها متينة، بل إن متانة هذه العلاقات هي التي تجعل الخيارات بمختلف أنواعها في مساراتها الحالية. وبمعنى آخر فإنه لفهم الخيارات السياسية والاقتصادية للبلدين علينا فهم عمق العلاقة بينهما. وهذه الحالة نادرة سياسيا في حد علمي، فلم تشهد علاقات الدول مثل هذا قبلا، وهذا عكس ما يتعلمه الطلاب في الإدارة العامة والسياسة، فالمصالح تقود السياسات والسياسات تقود العلاقات، لكن أن تكون العلاقة معكوسة بحيث تصبح العلاقات تقود السياسات والمصالح معا، فإننا أمام مشهد يحتاج إلى تحليل من نوع آخر. لعل أهم ما يربط بين البلدين هو الفهم والاختيار المشترك للواقع السياسي والاجتماعي فيهما منذ اللحظات الأولى للتأسيس، فالمملكة بقيادة الملك عبدالعزيز استطاعت توحيد كافة أركانها وقبائلها، حتى أصبحت القبيلة ركنا من الوطن، بحيث يتجاوزها الولاء إلى ولاء الوطن الأكبر، الذي تمتد فيه القبائل لتتعاضد فيما بينها وتلتقي على حب الوطن وحب نهضته والاستفادة من كامل الطاقات المتوافرة في أبنائه وأرضه من شرقه وحتى غربه، وفي نفس المسار سارت الإمارات العربية على يد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، عندما وحد كافة الإمارات العربية تحت راية واحدة من شمالها حتى جنوبها وشكل أول فيدرالية عربية ناجحة بمفاهيم يقبلها الشارع العربي، استطاع أن ينقل الولاء من القبلية إلى الوطن، ولهذا تظهر الأفكار والخيارات السياسية وحتى الاجتماعية بين البلدين مترابطة بشكل مذهل، فلقد فهم الشعبان أن البقاء تحت ظل قيادة وطنية واحدة أفضل بكثير من دعاوى قبلية مقيتة أو حتى ادعاءات حزبية تفرق وتشتت الجهد، ولو كانت تحت مفاهيم خداعة. لقد التقى الشعبان على حب القادة الكبار الذين أسسوا هذه الكيانات العملاقة في ظروف تاريخية صعبة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وفي كل مرة يحاول فيها أعداء البلدين فتح ثغرة من أجل زرع الخراب فيهما يستذكر الجميع الجهود الضخمة للملك عبدالعزيز والشيخ زايد بن سلطان، فتستفيق الهمم لمحاربة الأفكار الهدامة والخيارات الفاسدة. وفي ظل هذه القواعد والأسس فمن السهل فهم التحالف الاستراتيجي القائم اليوم بين المملكة وبين دولة الإمارات العربية المتحدة، فهو حلف مبني على أساس عميق وثابت من قرارات وخيارات شعبية حقيقية ترجمها القادة الكبار في قرارات ومواقف سياسية. خيارات تمثلت في الوحدة الوطنية تحت راية بيت مختار ومعروف، سخر كل إمكانياته لخدمة شعبه، خيارات التقدم والحضارة والثبات على المبادئ وعلى قيم الدين الراسخة المتفق عليها، خيارات نبذ الفرقة والتشرذم تحت أسماء براقة والعودة إلى التخلف الحضاري تحت أي اسم مستعار. هذه القيم هي التي صنعت أقداما سياسية ثقيلة جدا لم تتزعزع رغم هول الحوادث التي شهدها العالم العربي، بل هي التي - بفضل الله - مكنت كثيرا من الدول العربية أن تتجاوز أزمتها وتعود إلى الساحة قوية، أقدام ثقيلة منعت إيران من استغلال الارتباك الهائل وصنع أشباه دول في خاصرة العالم العربي، لتنفيذ أجندتها الاستعمارية، وما ثبات المواقف الهائلة في اليمن إلا دليل على ذلك لا يصل إليه الشك. هذا المشهد الذي يسجله التاريخ اليوم، ويظهر فيه بجلاء كيف أثمرت جهود الملك عبدالعزيز آل سعود والشيخ زايد آل نهيان في تجنيب جيل بأكمله ويلات المرحلة الحرجة، خاصة إذا تذكرنا المقولة الشهيرة بتربية الأبناء لزمان مختلف، وإذا كان كثير في وقت البدايات الصعبة قد شكك في القرارات المصيرية للقادة الآباء حينها، فهم اليوم جميعا يؤمنون بأن الله قد وفق القائدين إلى تلك القرارات الحاسمة، واليوم يعود المشهد ذاته ليثبت أن التلاحم والتآخي الذي نراه بين خادم الحرمين الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان وبين الشيخ خليفة والشيخ محمد بن زايد، هو امتداد للحكمة القديمة ذاتها، ومع اختلاف القرارات التي تتم معالجتها اليوم بيد أبناء القادة المؤسسين. فالمواقف السعودية الراسخة سياسيا تستمر بنفس القوة تحت قيادة الملك سلمان ومعه ولي عهده الأمين محمد بن سلمان، لكن مع تحولات تاريخية، اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، فالمملكة اليوم ترغب في التحول الاقتصادي داخليا من النفط إلى الإنسان، ومن ثروات باطن الأرض إلى ثروات سطحها، ومن الذهب الأسود إلى ذهب الطاقة الشمسية، وأن تصبح المملكة وفق رؤية طموحة جدا خاصرة العالم، لا يتنقل شيء من شرق الأرض إلى غربها إلا من خلال محطاتها البحرية والجوية والبرية. وفي الجانب الإماراتي يظهر الشيح محمد بن زايد، وهو يقود الإمارات بنفس القوة الاقتصادية التي زرعها الشيح زايد، لكن الشيح محمد يرسم للإمارات موقعا اقتصاديا وسياسيا مرموقا بين دول العالم، ولهذا تبدو الصورة المركبة واضحة للعيان الآن، فالنجاح في كلا الاتجاهين سيصنع محورا دوليا لا يمكن تجاوزه بسهولة، فالمملكة الراسخة سياسيا ذات القوة الاقتصادية الهائلة دوليا ستدعمها القوة السياسية الصاعدة للإمارات تحت قيادة الشيح محمد بن زايد، والنجاحات التي صنعتها الإمارات في التحولات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية ستضيء الطريق للتحولات الرصينة التي يقودها الملك سلمان وولي عهده الأمين. ومع حجم الولاء الذي يكنه الشعبان للقادة وما يكنه القادة للشعبين من حب فإن الموقف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن ينبئنا بكثير جدا مما هو مضيء للبلدين معا في المستقبل.