في اعتقادي لا توجد دولة في العالم خاضت التجارب الاقتصادية بتنوعها مثل الصين، فالصين جربت حلول الإقطاعيين عندما كانت المزارع مملوكة لأسر إقطاعية، ثم خاضت بمرارة كبيرة تجربة الشيوعية ومبادئ "ماو" القاسية التي انتهت بمجاعة كبرى، ثم جاءت مرحلة "دينج" وهي تجربة يصعب تصنيفها اقتصاديا، فلا هي شيوعية ولا هي اشتراكية ولا هي السوق الحرة الرأسمالية، هي خليط غريب، خليط تظهر فيه المبادئ الشيوعية وتظهر فيه حرية الأسواق. اقتصاد شيوعي يضمن للجميع دخلا مهما كانت مساهمته في الإنتاج وشركات اشتراكية شعبية على الجميع البيع لها بأسعار محددة مسبقا من الحزب، وهناك سوق حرة يبيع فيها الفرد كيفما يشاء فهو حر، لا أعرف كيف استطاعت الصين تحقيق تجربة مثل هذه، لكنها حدثت. في بحثي عن التجربة الصينية لم أجد نظرية قادرة على تفسير العلاقات بدقة، لعل هذا يعود إلى قصور في البحث عندي لذلك أدعو القارئ الكريم المتبحر في هذه التجربة إلى مشاركتي في هذه المعرفة، فالمسألة أن التطور الذي شهدته الصين جاء فريدا ولم يكن نتاج توصيات "هارفارد" بل بسبب ضغوط غريبة تجاوبت معها الصين بطريقة ناجحة، فالصين التي رأت المجاعة بسبب مبادئ "ماو" تريد الخروج من المجاعة نفسها وليس الخروج عن مبادئ "ماو" الشيوعية. الحزب الواحد يريد أن يظل حاكما بلا ديمقراطية حقيقية، ويريد للشعب الحياة بحرية، تبدو العلاقة مرتبكة، بل مستحيلة لكن أفكار "دينج" قد حققت ذلك المستحيل. المسألة تقوم كلها على تبني ليبرالية تحت المراقبة، فقد ترك "دينج" للمزارعين مساحة واسعة من الحرية طالما هذه الحرية لا تتناقض مع سياسات الحزب الكبرى، حرية يظهر فيها الحزب وكأنه نائم فلا أعلن قبوله ولا هو بالذي رفض هذه الحرية كانت تتضمن فسادا بمقاييس الشيوعية، فمن الذي كان في عهد "ماو" يستطيع تحويل بعض أجزاء من مزرعته إلى مصنع خاص به وهي التي يشترك فيها مع باقي المزارع لإنتاج المطلوب للدولة فقط، لكن في زمن "دينج" وطالما كان يمكن تلبية طلبات الدولة ولدى المزارع فائض وقت وفائض مساحة فقد تم غض الطرف عنه، فأصبح للمزارعين دخل غير ذلك الذي يأتيهم من التعاونية، والغريب أن هذا الدخل يأتي من المصانع الحكومية التي يشرف عليها الحزب الشيوعي وتشترى إنتاج مصانع الأفراد بأسعار تنافسية، وكان المزارع الذي بدأ جزء من مزرعته يتحول إلى مصنع خاص يبيع أحيانا إلى الناس في الطرق والناس تشتري منه رغم أنهم في الحزب الشيوعي، بل هم من كبار الحزب أحيانا. لقد ترك "دينج" للصين أن تتبعثر بهدوء تحت رقابة الحزب، أن تكتشف طرقا للتغلب على مصاعب الحياة دون قوانين ضابطة وصارمة، ومع هذه المرونة الفوضوية شيئا ما، بدأت الأمور تأخذ مسارا أكثر وضوحا، فبدأت التنافسية تصبغ المظاهر الاقتصادية، كثير من المزارعين الذين حولوا أجزاء من مزارعهم إلى مصانع أصبحوا يتنافسون بحدة ولتجنب تدخل الحزب في تنافسيتهم رأوا أن التنظيم بينهم أمر لازم، ولأن لدى الصين رصيدا من تجربة فريدة في قدرة المجتمعات الصغيرة على تنظيم نفسها من أيام "ماو" وشيوعيته القاسية، لذا بدت المجالس القروية قادرة وحدها على تنظيم العمل كسوق حرة. لعل الصورة أصبحت واضحة قليلا الآن، فها هي منظومة السوق الحرة وقوانين التنافس تظهر في قلب شيوعية ولكن تحت مراقبتها. في ظل هذه التقلبات كان لدى المدن والقرى المختلفة مساحة للتنافس فيما بينها، ومرة أخرى تعود العلاقات شائكة، فالنمو في الحرية والفوضى ونمو الأسواق المحلية جعل بعض المدن يتأثر بقدرات مدن أخرى خاصة تلك التي سبقتها في التجربة، فأصبحت بعض المدن والقرى تعاني إغراق السوق الذي انتهجته الأسر والمجالس القروية في مدن أخرى، وكان لا بد لها من أن تتخذ موقفا لمنع ذلك، فالمسألة لم تعد شيوعية فقط، بمعنى أنه لم يعد بإمكان الفرد في قرية ما أن يأخذ الدخل نفسه الذي يحصل عليه فرد آخر في مدينة أخرى حتى لو كان هذا عاطلا وهذا يعمل أو أن هذا مزارع وهذا معلم، ذلك أن البعض قد طور مصانع منزلية، بل شركات عائلية تضيف له دخلا كبيرا، وهناك أسواق يبيع فيها منتجاته، ورغم أن الحزب ضمن للجميع حدودا دنيا من المعيشة لكنه سمح لمن يريد أن يضيف إلى نفسه بقدر ما يضيف إلى السوق والاقتصاد، علاقات معقدة لكن البراعة كانت في إداراتها. فمع شدة المنافسة بين القرى والمدن ولمنع التفكك منح الحزب الشيوعي مساحة أوسع من الحرية الاقتصادية، حيث سمح للمدن والقرى أن تحدد علاقاتها الاقتصادية مع المدن الأخرى دون تدخله، فلم تسمح بعض المدن بإغراق أسواقها بمنتجات مدن أخرى، بل قررت أن تغلق الأسواق أمام منتجات المدن المتنمرة اقتصاديا، وبهذا بدأت تجربة أكثر غرابة تذكرنا بتلك التي ظهرت في الغرب الأمريكي مع انتقال الناس من القرى الفقيرة إلى المدن الغنية، من مدن لم يستطع أهلها تجاوز المألوف ولم يظهروا تجاوبا مع القيم الجديدة، إلى مدن سباقة وأكثر تحررا، مدن فيها عمل لمن يريد ومدن أصبح لديها فائض تجاري كبير جدا منح الصين كلها فرصة للتصدير والتجارة العالمية، ومدن عالقة في تجربة "ماو"، ومدن أخرى عالقة في القرون الوسطى والعائلات الصينية القديمة، كل هذا والحزب الشيوعي يراقب ويمنح الجميع مساحة من العمل الحر تحت مبادئ عامة مقبولة للجميع، على أن للجميع حدا أدنى من الحياة تكفله الشيوعية وسط ركام من ليبرالية الأسواق وتراكم القيمة. في نظري أن التجربة الصينية لم تحظ حتى الآن باهتمام واسع من قبل الدارسين السعوديين ذلك أننا غارقون جدا في تجارب "هارفارد" التي لم تعد تثمر ولم تعد قادرة على تقديم الكثير للعالم المختلف عن أمريكا، وفي كتب كثيرة قرأتها عن الصين كانت هناك عبارة تتكرر باستمرار وهي رفض الصين توصيات أساتذة هارفارد، فالصين ليست أمريكا هكذا كان الرد، والتجربة الصينية في تنافسية المدن تستحق الدراسة والاستنساخ هنا مع ضمان حد أدنى للحياة الكريمة لمن يعيش على هذه الأرض الطيبة.