منذ عام 2008 ومع انهيار الأسواق العالمية وتوالي قصص الإفلاس والفساد وضعت المملكة نفسها في مكانة مهمة جدا ضمن الدول العشرين الأكبر اقتصادا في العالم، ولكن هذه المكانة فرضت علينا الكثير من الالتزامات الدولية في مجالات عدة، لعل من أهمها السعي المستمر نحو استقرار اقتصادي عالمي من خلال ضمان إمدادات الطاقة وتوازن السوق، وأيضا قامت المملكة في ذلك الحين بالحفاظ على مستويات النمو العالمية وامتصاص الاختلالات التي نشأت في أسواق الائتمان بسبب الأزمة المالية ومنحت العالم فرصة لاستعادة التوازن، وهكذا أصبحت المملكة ذات مكانة عالمية كبرى وأصبح الشرق والغرب يعتبران المملكة قدوة لهما، وتجاوبا مع هذه المكانة الكبيرة، كان لا بد من القيام بالكثير من الإصلاحات الاقتصادية ومن أهمها محاربة الفساد وبشكل علني وصادق، وبدأت المملكة رحلة مكافحة الفساد عندما تم إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 1432ه، وقد استبشر الجميع خيرا في انطلاقة الهيئة، ومع ذلك فإن النتائج لم تكن ملموسة؛ ذلك أن جهود الحكومة في الحرب على الفساد فشلت جميعها. ويكفي أن نشير إلى تصريح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: "تقول تقديرات خبرائنا إن ما يقارب 10 في المائة من الإنفاق الحكومي كان قد تعرض للاختلاس في العام الماضي بواسطة الفساد. فجميع تلك الحملات كانت تبدأ وتنتهي عند أول السلالم الوظيفية، والعمل يصبح صعبا وتنغلق الأبواب كلما صعد التحقيق إلى أعلى". لكن الإصلاحات الاقتصادية بعد تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان مقاليد الأمور في المملكة قد قادت الجميع نحو مسارات جديدة وهي تستند إلى رؤية واضحة ومعلنة، وهذه الرؤية تنص صراحة على الحكومة الفاعلة التي تهتم بقضية كفاءة الإنفاق، ولهذا استحدثت المملكة كثيرا من الإجراءات والأنظمة، وقامت بمهمة شاقة وصعبة لإصلاح بنية الميزانية العامة، ولكن مرة أخرى ظهرت الشكوك حول القدرة على الاستدامة في المشروع الإصلاحي هذا طالما لم يتم اتخاذ خطوات جادة لمحاربة الفساد، وهنا نقرأ إشارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في حواره الصحافي مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية وإلى الوعد الذي قطعه الملك سلمان على نفسه مع توليه الأمر، حيث قال: "ليس من الممكن أن نبقى ضمن "مجموعة العشرين" في حين تنمو بلادنا بهذا المستوى من الفساد"، إذا فالرؤية كانت واضحة في أن محاربة الفساد جاءت من عمق اقتصادي بحت، لا يمكن لنا الاستدامة ولا الصمود ضمن أقوى اقتصادات العالم ونحن لم نحارب الفساد كما ينبغي، ولن نحقق قفزات حقيقية في جذب الاستثمارات العالمية طالما هناك شعور عالمي بعدم الارتياح نحو آلية مكافحة الفساد في المملكة وأنها لم تصل إلى الطبقات العليا منه. واليوم أثبتت المملكة للعالم أجمع أنها جادة في محاربة الفساد والقضاء عليه، ولن يكون أحد مهما بلغت مكانته بمنأى عن العدالة إذا ثبت تورطه في الفساد، وقد توج الأمر الملكي بإنشاء لجنة التحقيق في قضايا الفساد جهد أكثر من عامين، تم جمع بيانات وأدلة كافية عن نحو 200 اسم، أقر 95 في المائة منهم بتهم الفساد ووافقوا على التسوية وإعادة الأموال، في حين أثبت 1 في المائة براءتهم وانتهت قضاياهم، وبقي 4 في المائة سيعرضون على القضاء، ومن المتوقع استرداد نحو 100 مليار دولار. ورغم الأهمية النسبية لهذا المبلغ الضخم إلا أن الرسالة الأساسية وصلت، وهي أن محاربة الفساد في المملكة أصبحت ثقافة حقيقية، وأن هناك اليوم من الإجراءات الكفيلة بالوصول إلى أي مفسد يستغل السلطة والصلاحيات الممنوحة له من أجل مصالح شخصية انحرفت بعيدا عن المصلحة العامة. وأن البيئة الاقتصادية في المملكة اليوم تسير بثبات نحو تعزيز مكانة المملكة في العالم تعزيزا يتسم بالاستدامة، وأن كفاءة الإنفاق سوف ترتفع، ولهذا فمن المتوقع في ظل هذه الإصلاحات الرئيسة أن يرتفع الإنفاق الرأسمالي كثيرا في السنوات القادمة، كما أنه من المتوقع أن ترتفع وتيرة الاستثمار الأجنبي، كلما زادت الإصلاحات الاقتصادية والبيئة القانونية وتجذرت في المجتمع. وخلاصة المقال أن موضوع مكافحة الفساد في المملكة قضية اقتصادية بحتة، وهذه مسألة لا جدال فيها، ومن المعروف أن الحكومات تتعرض دائما عندما تحارب الفساد إلى حروب اقتصادية وسياسية شعواء من أولئك الذين وجدوا في البيئة الفاسدة مرتعا لهم، فمن الهزلي جدا أن يروج البعض بأن محاربة المملكة للفساد وبأمر من الملك شخصيا كانت لغرض توازنات سياسية داخلية، إذ إن مثل الحماس الذي شهدته المملكة في مكافحة الفساد لا يمكن أن يقوم إلا على استقرار سياسي محكم وواضح، فهو الداعم القوي للقيام بالحملات عند قمة الهرم الوظيفي والاقتصادي للبلاد، بل إنه من المعروف عموما أن الفساد السياسي يقود إلى فساد اقتصادي وأنه إذا كانت الأمور غير مستقرة سياسيا فإن التسويات مع الفساد تأتي على حساب الاقتصاد دائما. إذا فمحاربة الفساد بهذه الروح تدل بلا أدنى شك على تمكن سياسي ووحدة صف خلف القيادة السياسية للمملكة.