كلمة الحرية هي ما ينشدها الجميع , بل هي كل ما دعت له جميع الديانات السماوية وهي ما يعشقها كل ما على هذا الكوكب ويتغنى بها ويناضل لأجلها . وكثيرًا ما مات الكائن الحي في سبيل تحقيقها حتى و إلّم يقطف ثمارها . والحرية هي منظومة من المفاهيم والأفكار والقيم . وبقدر تمكن المفهوم الحقيقي للحرية من تلك المجالات سمقت بها الحضارة ورسخت جذورها . الحرية منطلق الإبداع , وبقدر تحققها بصفة متساوية للجميع يعيش الجميع في استقرار مثمر ينتج أروع المخرجات الحضارية . فبالحرية تتطور العلوم الإنسانية وبالحرية تتقدم الصناعات في شتى المجالات وبالحرية تستقر الشعوب وبالحرية تشيد المدن وترتفع بالبنيان وتعمر الأوطان وتكون بيئة هادئة يعيش فيها الجميع بحب ووئام . ولكننا كثير ما نسيء للحرية فتجدنا نغلفها بضوابط تتناقض مع روحها وتتعمد تقيدها والحجر عليها . فسقف الحديث يقف عند حدود لا يتجاوزها المتكلم , والسؤال في كثير من قضايانا يعد خرقا للذوق العام . بل إن بعض ما نستطيع إنجازه في مجال أعمالنا يعد إشهاره تجاوز للحدود يوجب الردع . وبالمقابل نجد أننا في بعض ما نراه حرية خاصة نمارسها مطلقين لأنفسنا العنان في تمثل تلك الحرية نسيء للحرية فتظهر في صورة قبيحة . فنعتنق ما يحقق لنا الإحساس بالحرية من أفكار ومعتقدات وطريقة حياة . ولكن بطريقة تعتمد على الإقصائية فكل ما يخالفني في فكري ومعتقدي فهو ضدي , والدائرة الفلكية لا تسعنا مختلفين , فإما أن يتمثل الآخر فكري تمثلا تاما حتى وإن كان خطأ- أو أعتنق فكره دون أعطاء مساحة للاختلاف والاتفاق . ومن هنا سقطت الحرية الحقيقية لتحل محلها الحرية التجارية التي تضعك في خانة إما أن تكون معي أو ضدي . بل لعل أسوأ ما في الحرية هي الانتقائية فكل ما وافق حاجتي ومتطلباتي مارسته وأرغمت كل من في محيطي بالقبول به وتمثله ودعوت له بصفته حرية لا يمكن أن تخضع للتقويم والضبط . أننا عندما ندير الفكر في الأمم التي نشدت الحرية المطلقة من قيود الدين والذوق العام لكل بيئة وما يحفها من ثوابت وجدنا أن يقينهم بأنهم لن يعيشوا - ولا يمكن أن يعيشوا - في فوضى مغطاة باسم الحرية, فأخذوا يُشرعون لهم قوانين تخدم أهدافهم وأغراضهم السياسية والفكرية ولا تتعارض مع شهواتهم فلم تتوافق وفطرة الإنسان ولم يستطيعوا أن يقنعوا الناس بها فما لبثوا أن انقلب عليهم غيرهم بفكرة جديدة للحرية ولكنها أيضا استمد ت من المصدر البشري الذي لا يسلم من النقص فلا يكاد يقر لها قرار حتى يستجد ما يهدم عرشها فلا يبقى إلا الحق ولا يدوم إلا ما وافق الشرع الإلهي المطهر . متى استقل الإنسان بعقله وتجاوز قدرته وحجمه وأراد أن يضع قوانين لنفسه ولمجتمعه تخالف ما أراده الله ووضعه فإنها تكون وبالاً ودماراً عليه . إن الله قد وضع لنا الضوابط والقوانين التي تجعل الحرية تسير في إطارها الصحيح والذي من خلاله تحقق الراحة المطلقة والتناغم التام دون اضطهاد أو إجبار . وهذا هو ما نجده في الأفكار التي تدعي الحرية وكيف تتحول قضايا الحياة والمجتمع من قناعة يتناولها أفرادها ويناضلون لأجلها حبًا وسعيًا لإبرازها في أجمل صورة , إلى رضوخ تام لأوامر التيارات السياسية أو الإلحادية .مما يخرجها من طور المفهوم النفعي لدورها في الحياة إلى تسخير ها وتوجيهها للدعاية والإعلان للفكر أو المذهب . والبحث عن الحرية الوهمية فيما يزيد القيد ويمعن في الإسفاف لتحقيق مصالح كثيرًا ما تكون خاصة . لذا رأينا أن الحرية الحقة تكون واضحة جلية ذات نفع عندما تكون منضبطة ترقى بالإنسان وتحافظ على حقوقه كاملة بعيدة عن اغتصاب حقوق الآخرين بدعوى الحرية التي تشيع نصوصًا تهدم القيم وتفتت عُرى الترابط في المجتمعات وتسعى للإمعان في التفلت من كل ضابط ديني أو أخلاقي . الحرية المنضبطة هي أجنحة دقيقة المقاسات تحلق بالفرد والمجتمع في سموات التأثير , فتؤثر وتتأثر وتنتخب من كل ما يعرض عليها الجيد وتنمية وتُرقيه وتهذب ما خالف مبادئها الثابتة . وبذلك فالحرية والالتزام وجهان لعملة واحدة تقف موقف الضد من الإلزام الذي كان وسيظل عقبة في مدارج التطور والتقدم. . كتبه / يوسف عبدالرحمن آل حازب