كتبت كثيرا عن سوق العمل في المملكة، وناقشت مرارا هذا الموضوع كمشكلة اقتصادية في المقام الأول، ورأيت أن الحل يبدأ اقتصاديا على كل الأحوال. من المناسب اليوم العودة للحديث عن سوق العمل مع بدء تنفيذ رسوم المرافقين للعمال الأجانب في القطاع الخاص. وإذا كان الهدف البحت من هذه الرسوم هو زيادة إيرادات المالية العامة، فلا حاجة إلى نقاش تأثيراتها في سوق العمل. أما إذا كان الهدف منها "كما يتردد" هو رفع تكلفة العمال الأجانب على القطاع الخاص فإنني أقول، إن هذه الإجراءات والرسوم لن تحقق أي تصحيح لسوق العمل، وذلك لعدد من الأسباب التي سأبين بعضها في هذا المقال. سوق العمل كما أشرت منذ سنوات يتكون من مستويين من العرض، مستوى العرض من جانب العمال السعوديين، ومستوى العرض من جانب العمال الأجانب. ويختلف مستوى عرض العمال الأجانب من جانبهم لانخفاض متوسط الأجر لكل ساعة عمل، ولقد أشرت مرارا إلى أن قدرة المواطن السعودي الراغب في العمل على منافسة العمال الأجانب ضعيفة، بسبب ضعف الراتب المقدم له "عند مستوى رواتب العمال الأجانب" مقارنة بالأعباء الاجتماعية والأسرية والمعيشية التي يواجهها أو بسبب طول ساعات العمل أو طول فتراته التي تعوقه عن القيام بواجباته الأسرية الأخرى، ما يجعله يطالب بمستوى أجر مرتفع رغم ثبات مستوى الإنتاج مقارنة بالعامل الأجنبي. وقد أشرت إلى أن الحل لن يأتي بسن قوانين على الشركات ورجال الأعمال لإجبارهم على السعودة ودفع أجور أعلى، لأن هذا سيقودنا إلى سوق سوداء أو موازية وهذا ما حدث، ولتصحيح سوق العمل فعلا يجب علينا تصحيح منحى العرض بأن نجبر العمال الأجانب على منافسة "عادلة"، وطلب أجر أعلى من الحالي، وأيضا سن قوانين لتعديل ساعات العمل. المعضلة الرئيسة في تعديل أجور العمال الأجانب هو عدم قدرتنا حتى الآن على أن نجبر العمال الأجانب على رفع أجورهم، "حتى لو وضعنا حدا أدنى لها"، بمعنى آخر ما الذي يجبر العامل الأجنبي على "الإصرار" على راتب أعلى أو اختيار الخروج من البلاد، وأقول في هذا، إنه يجب على وزارة العمل دراسة منحنى العرض الخاص بالعمال الأجانب جيدا، وتحليل الأسباب بكل دقة، وأن يكون التحليل بأيدي سعودية مخلصة. ذلك أنني أعتقد جازما أن عدد العمال الأجانب أكثر بكثير جدا من حاجة البلد اقتصاديا، ما يعني أن قدرة العمال الأجانب أنفسهم على التأثير في الأجور أصبح معدوما، وأن قدرة الاقتصاد على إيجاد وظائف هي أقل بكثير من عدد العمال فيه، ونوعية العمال الأجانب الذين يتم استقدامهم غير مجدية، فهم لا يسهمون في زيادة حجم الإنتاج الكلي، بل يقتاتون على مستوى الإنتاج الحالي فقط. قد تلاحظ كثرة العمال الأجانب عندما تجد العشرات منهم في محل صغير لا تزيد مساحته على 100 متر مربع. ولقد أحصيت شخصيا ما يزيد على 26 عاملا أو يزيدون في مطعم "شاورما" صغير، فأي رجل أعمال يرضى بتحمل تكلفة هذا العدد من العمال وهو لا يحتاج إليهم فعلا، ما يؤثر حتما في أرباحه فيما لو عمل بعدد أقل بكثير من ذلك، لا يمكن تبرير هذا الاتجاه "غير العقلاني" عند رجال الأعمال السعوديين" إلا إذا "وإذا فقط" لم يتأثر دخله بزيادة عددهم ومهما زاد هذا العدد "حتى لو أخذنا في الاعتبار فرضية التستر"، والمعنى أن 26 عاملا أجنبيا مستعدون "طوعا" لتقاسم أجرة ستة عمال فيما بينهم "العدد الفعلي الذي يحتاج إليه المحل"، ومع ضمان بقاء أرباح التاجر على المستوى نفسه مع بقائهم يعملون، وهذا يجرنا إلى تستر متطور من نوع جديد. بهذا التحليل نفهم أن تراجع مستويات الأجور يأتي أساسا، بسبب زيادة العمال الأجانب على حاجة الاقتصاد، وسنكتشف أثره البالغ في مستويات الأجور ومهما بذلت الدولة من جهد لتعديل الأجور أو تصحيح مستويات تكلفة العمال الأجانب ومع وفرتهم، فإن الأثر النهائي هو تشويه الاقتصاد من خلال تحميل المستهلك "وهو الموظف الحكومي سواء كان مدنيا أو عسكريا" فاتورة رفع تكلفة العمال وكثرتهم "إذا علمنا قدرة التاجر على نقل التكلفة للمستهلك"، وهذا سينهك القوة الشرائية على المدى المتوسط، وفي نهاية الأمر سنتعرض لمشكلات اقتصادية معقدة مع ضعف النمو. في حالات اقتصادية كهذه، فإن تعديل وفرض رسوم على المرافقين لن يؤثر أبدا في سلوك العمال الأجانب وتفضيلاتهم. من الأسباب التي تشجع العمال الأجانب على الرضا بالأجر المنخفض، هو تفاوت مستويات المعيشة في المملكة بين الأجنبي والسعودي، ولا تستغرب إذا وجدت عمالا يعيشون "طوعا" عند مستويات ضعيفة، وليس هذا بسبب ضعف الدخل في المملكة، بل هذا سلوك اختياري منهم، فهم يرضون، بل يتعمدون العيش معا وبأعداد كبيرة في منازل صغيرة ذات طرق ضيقة لتقليل تكلفة المعيشة على الفرد منهم، ومن أجل ذلك فهم في الغالب يأتون للعمل دون عائلاتهم، ويتشددون في الإنفاق على أنفسهم من أجل تحويل 90 في المائة من الراتب إلى أسرهم في بلادهم، وهذا الأمر لا يحتاج إلى أدلة كثيرة فحتى أولئك الذين يعملون في مهن راقية تجدهم يعيشون عند مستويات تقل عن مستوى المعيشة التي يحتاج إليها الموظف السعودي في الفئة نفسها، وهذا "إضافة إلى أن عدد العمال الأجانب الضخم" يقود الأجور حتما إلى مستويات غير تنافسية، وبدلا من تشجيع العمال الأجانب على الخروج من هذه المستويات المعيشية إلى مستويات أقرب للسعودي من خلال منعهم "عن طريق وزارة الشؤون الاجتماعية" من المعيشة في مستويات متدنية "طوعا واختيارا"، وتشجيعهم على استقدام أسرهم إلى البلاد لتقليص فرص التحويل ودفعهم إلى الإنفاق أكثر في البلد، تأتي رسوم المرافقين عكس التوقعات تماما "إذا كان الهدف منها تصحيح سوق العمل"، حيث تجبر العمال مع أسرهم حاليا على اتخاذ قرارات ترحيل الأسر والمرافقين والبقاء في البلد دون أسرهم وهذا يشجعهم على زيادة تقليص الإنفاق، والرضا بمستويات معيشية أقل، وبالتالي الرضا بمستويات الرواتب الحالية أو أقل منها، وهذا في نهاية الأمر يعزز وجودهم ومنافستهم على فرص العمل وإخراج العامل السعودي من السوق.