أكدت دراسة حديثة أعدّها الدكتور عبد الرحمن محمد السلطان أستاذ الاقتصاد المشارك في قسم الاقتصاد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والكاتب الاقتصادي ب «الجزيرة» حول توطين الوظائف في دول مجلس التعاون الخليجي أن أكبر عائق يقف أمام نجاح جهود التوطين في المملكة هو عدم تعاملها بشكل مباشر مع مشكلة عدم قدرة العمالة المواطنة على منافسة العمالة الأجنبية متدنية الأجر، ما تسبب في الحد من جدوى تلك الجهود وحوّل قضية الإحلال إلى معضلة وطنية مستعصية على الحل.. ورأت الدراسة أن حوالي 36% من المواطنين السعوديين دون سن الخامسة عشرة سيجعل أنه سيكون هناك تزايد مستمر في أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل كل عام، لذا قد يؤدي ذلك إلى وجود مخاطر اجتماعية واقتصادية وأمنية كبيرة يمكن أن تترتب على استمرار هذا الوضع دون تصحيح.. وخلصت الدراسة إلى أن سياسة الاستقدام المرنة وغير المقيدة خلال العقود الثلاثة الماضية تسببت في تدفق أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية متدنية الأجر والمهارة نتج عنها تبني القطاع الخاص لنموذج أعمال business model يعتمد على استخدام كثيف للعمالة غير الماهرة ومتدنية الأجر تراجعت معه إنتاجية عنصر العمل ومستويات الأجور، وهو ما حدّ من قدرة العمالة المواطنة على منافسة العمالة الأجنبية وجعل القطاع الخاص يتمسك بتوظيفها ويقاوم جهود الإحلال، وما لم نصل إلى حلول غير تقليدية تصحح نموذج الأعمال وتزيد من تنافسية العمالة المواطنة في سوق العمل فستظل جهود التوطين تراوح مكانها دون تحقيق أهدافها. وكما يظهر من الجدول رقم (1) فإن العمالة الأجنبية الأمية أو التي تجيد فقط القراءة والكتابة شكلت 78% من إجمالي عدد العمالة الأجنبية في القطاع الخاص في عام 2009، فيما شكل من يحملون الثانوية فما دون 92% من إجمالي عدد العاملين الأجانب في هذا القطاع بمتوسط أجر مرجح لم يتعد 556 ريال شهرياً.. فسهولة وصول وحدات القطاع الخاص إلى العمالة الأجنبية متدنية الأجر جعلها تتبنى نموذج أعمال يعتمد على استخدام مكثف للعمالة الأجنبية متدنية الأجر والمهارات. أصبحت معه معظم وظائف هذا القطاع غير متاحة أصلاً للعمالة المواطنة باعتبار أنه يمكن شغلها فقط بعمالة أجنبية أجورها متدنية.. وهو ما يعني أن الضرر الذي لحق بسوق العمل السعودي جراء فتح الاستقدام غير المقيد لم يقتصر فقط على تضييق فرص العمل أمام العمالة الوطنية وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة، وإنما تسبب أيضاً في تدنٍ ملحوظ في مهارات ومستويات أجور العاملين فيه نتيجة عدم وجود حوافز لدى وحدات القطاع الخاص للاستثمار في التعليم والتدريب واستخدام أساليب إنتاج عالية التقنية وكثيفة رأس المال يخلق معها وظائف عالية المهارات والأجور. الأمر الذي يترتب عليه، تدنٍ في مستويات إنتاجية قوة العمل، انخفاض في عائد استثمارات الأفراد في تطوير تأهيلهم ومهاراتهم، عدم وجود ضغط حقيقي على قطاع التعليم والتدريب لرفع كفاءة أدائه وتحسين نوعية ومستوى مخرجاته برغم الإنفاق الحكومي الكبير على هذا القطاع، وبالتالي تراجع مستمر في قدرة الاقتصاد السعودي على توفير فرص عمل دخلها مناسب للعمالة المواطنة برغم معدلات النمو الاقتصادي الإيجابية وتحسُّن الوضع المالي للدولة. وتوصلت الدراسة إلى أن التأثير السلبي لضيق فرص العمل المتاحة أمام العمالة المواطنة يتجلى في تدني نسبة مشاركة العمالة المواطنة في سوق العمل ما تسبب في ارتفاع كبير في معدل الإعالة في المملكة حيث بلغ 3.8 في عام 2009، أي أن كل مشتغل يعيل في المتوسط 3.8 فرد، وهو معدل مرتفع جداً يعود بشكل رئيس إلى انخفاض نسبة المشاركة في سوق العمل بين السكان في سن العمل حيث بلغت هذه النسبة، كما يظهر في الجدول رقم (2)، حوالي 36% فقط لعموم السكان السعوديين، وتنخفض بشكل حاد بين الإناث بحيث لا تتجاوز نسبتها 12%. حل إشكالية عدم نجاح جهود التوطين: كون جهود السعودة تعمل في مواجهة مباشرة مع قوى السوق، يعني أن السعودة لن تنجح ما لم نصل إلى حل يزيد من تنافسية العمالة المواطنة ويصحح قوى سوق العمل لتعمل لصالح توظيف العمالة المواطنة بدلاً من أن تعمل لصالح توظيف العمالة الأجنبية، وذلك من خلال تضييق الفجوة الكبيرة القائمة حالياً بين تكلفة توظيف العمالة الأجنبية وتكلفة توظيف العمالة المواطنة، وحددت الدراسة خيارين لتحقيق ذلك: الخيار الأول: رفع تكلفة توظيف العمالة الأجنبية من خلال زيادة رسوم توظيفها: وفق هذا الخيار فإنه يمكن من خلال رفع مختلف الرسوم المفروضة على توظيف العمالة الأجنبية، كرسوم الاستقدام والإقامة ورخص العمل ونقل الكفالة وغيرها من رسوم، رفع إجمالي تكلفة توظيف العمالة الأجنبية (أجر العامل مضاف إليه رسوم توظيفه) على صاحب العمل بصورة تحد من جاذبية توظيف هذه العمالة بسبب تدني أجورها مقارنة بالعمالة السعودية.. فكون معظم أفراد العمالة الأجنبية في المملكة يأتي من بلدان تتصف بتدنٍ شديد في مستويات المعيشة تجعلها تقبل بأجور منخفضة جداً وترضى بظروف عمل قاسية يجعل من المستحيل على العمالة السعودية منافستها، والحل الوحيد الذي يمكن به الحد من هذه الميزة التنافسية التي تتمتع بها هو فرض زيادة كبيرة في رسوم توظيفها. وذكرت الدراسة أن هذا الخيار هو ما اقترحته شركة ماكنزي على دولة البحرين كحل لمشكلة الاعتماد الكبير في القطاع الخاص البحريني على العمالة الأجنبية في ظل ارتفاع في معدلات البطالة بين صفوف العمالة المحلية، حيث اقترحت ماكنزي على الحكومة البحرينية رفع رسوم استقدام العامل، بمن فيهم خدم المنازل، إلى 600 دينار بحريني عن كل رخصة عمل مدتها سنتان، ورفع رسم الإقامة الشهري إلى 75 ديناراً شهرياً.. إلا أنه وبسبب المعارضة الشديدة من أصحاب الأعمال لم تستطع الحكومة البحرينية في الواقع تنفيذ هذه المقترحات وبعد عملية مشاورات طويلة ومضنية مع قطاع الأعمال تم إقرار زيادات محدودة في هذه الرسوم، حيث حدد رسم الإقامة الشهري ب 10 دنانير فقط بدلاً من 75 ديناراً، كما حددت رسوم إصدار تصاريح العمل بمبلغ 200 دينار كل سنتين بدلاً من 600 دينار. إلا أن محاكاة أجرتها الدراسة، افترضت إجراء رفع كبير جداً في رسوم الاستقدام ورسوم الإقامة بحيث تصبح رسوم الاستقدام 10,000 ريال بدلاً من 2,000 ريال، ورسوم الإقامة 12,000 ريال سنوياً بدلاً من 500 ريال، سيتسبب في رفع رسوم توظيف العمالة الأجنبية على القطاع الخاص لتبلغ حوالي 85 ملياراً، أي حوالي عشرة أضعاف حجمها حالياً، دون أن ينتج عنه زيادة تذكر في جاذبية وتنافسية العمالة المواطنة بصورة تجعل القطاع الخاص أكثر رغبة في توظيفها، وسيترتب عليه آثار سلبية عديدة على القطاع الخاص تضر بالجهود المبذولة لتفعيل دوره في الاقتصاد السعودي. الخيار الثاني: تخفيض تكلفة العمالة السعودية: بدلاً من رفع تكلفة توظيف العمالة الأجنبية على القطاع الخاص لتحسين تنافسية العمالة المواطنة، كما في الخيار السابق، يمكن عِوضاً عن ذلك خفض تكلفة توظيف العمالة السعودية على القطاع الخاص، ما يجعل من المجدي لهذا القطاع توظيفها بدلاً من توظيف العمالة الأجنبية.. والذي يمكن تحقيقه عن طريق تدوير رسوم توظيف العمالة الأجنبية والتي تشمل رسوم الاستقدام، الإقامة، رخص العمل، رسم صندوق الموارد البشرية، نقل الكفالات، تأشيرات الخروج والعودة، وغيرها من رسوم، إلى القطاع الخاص على شكل إعانة عن كل عامل سعودي يعمل في منشأة خاصة بشرط تجاوز راتبه حداً معيناً، اقترحت الدراسة أن يكون أربعة آلاف ريال شهرياً.. أي أن الحد الأدنى لأجور العمالة السعودية في القطاع الخاص سيكون 4,000 ريال في الشهر، إلا أن صاحب العمل لن يتحمّل فعلياً إلا جزءاً من هذه التكلفة، كونه يحصل على إعانة عن كل موظف سعودي يعمل لديه، وتحدد قيمة هذه الإعانة من خلال قسمة إجمالي رسوم توظيف العمالة الأجنبية التي يتم تحصيلها سنوياً على عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص الذين يستحق عنهم إعانة. وفي المحاكاة التي أجرتها الدراسة نجحت عملية التدوير في أن تساوي بين التكلفة الفعلية لعامل أجنبي راتبه 1,200 ريال وعامل سعودي يبلغ راتبه الشامل 4,000 ريال، وذلك من خلال رفع محدود في رسوم توظيف العمالة الأجنبية زادت معه تكلفة توظيف العامل الأجنبي بنسبة 19% فقط، حصل القطاع الخاص مقابلها على 29 مليار ريال سنوياً على شكل إعانة للسعودة. بالتالي فإن وحدات القطاع الخاص التي تنجح في زيادة نسبة سعودتها قد تحقق في الواقع مكاسب مالية صافية في حال كون المبلغ المدور لها يزيد عن العبء الإضافي الذي ستتحمله نتيجة ارتفاع ما تدفعه من رسوم لقاء توظيف عمالتها الأجنبية.من ثم فقد توصلت الدراسة إلى أن خيار تدوير رسوم توظيف العمالة الأجنبية هو الخيار الوحيد المناسب لدفع القطاع الخاص إلى تبنى جهود التوطين بصورة طوعية بدلاً من كونها قسرية توجد الحافز لدى منشآت القطاع الخاص للتهرب منها والتحايل عليها، كما سيشجع ويضطر القطاع الخاص إلى تبني نموذج أعمال يعتمد على استخدام أكثف لرأس المال، ترتفع معه إنتاجية عنصر العمل ونسبة الوظائف عالية المهارة والدخل في الاقتصاد السعودي، ما يجعل فرص العمل المناسبة للعمالة المواطنة تنمو بشكل مستمر.