ينبغي على المسلم المتقاعد من وظيفته بأن يدرك أن التقاعد ليس معناه النهاية للحياة العملية ، بل هو في حقيقته نهاية للحياة الوظيفية ؛ وبداية فعلية للحياة الجدية والعملية – خارج نطاق الوظيفة – ومما يؤسف له أن بعضاً من المتقاعدين ينظرون للحياة بعد مغادرة الوظيفة والإحالة على التقاعد نظرة شؤم وخوف ، يطلق عليها بعض ضعاف النفوس والمنهزمين نفسياً لفظ "مُتْ وأنْتَ قَاعِدْ" ، ليكون هذا اللفظ رنيناً لصوت اليأس في قلوب بعض الموظفين ؛ عسكريين كانوا أو مدنيين..ومناسبة هذا المقال مقابلتي لأحد الإخوة الأفاضل ، وهو أخٌ عزيزٌ الشيخ العميد/سعد بن سليمان العكوز ضابط الشؤون الدينية بشرطة منطقة مكة سابقاً ، فقد قابلته بجامع عبدالقادر نصير بمكة ، وأخبرني بأنه قد تقاعد عن العمل بناء على رغبته ، فتذكرت نشاطه الدعوي في القطاعات الأمنية ، حين كنت أعمل تحت إدارته قرابة الخمس سنوات ، وقد استفدت من خبرته الإدارية ، وخلقه الرفيع الشيئ الكثير ، وقد دونت شيئاً من ذلك في كتابي "أوراق من حياتي". وليس بغريب أن يتقدم أي مسئول - عسكرياً كان أو مدنياً – بطلب التقاعد المبكر من العمل المنوط به ؛ فهاهو معالي وزير الحج والأوقاف السابق الأستاذ/حسين عرب – رحمه الله – يتقدم للملك فيصل - رحمه الله – بطلب إعفاءه من منصب الوزارة ، فجاءت الموافقة بناءً على طلبه ، فكتب قصيدة رائعةً بعنوان "الوزارة" يقول فيها: تقاعدت عن عبء الوزارة راغباً وغادرتها من قبل سن التقاعد وما استكبرت نفسي بلمع بريقها وما الكبر من طبع العقول الرواشد ومن أنا؟ إن أكبرت نفسي بمنصب كبيرٍ، أعاني منه كل الشدائد ومن يحمل العبء الكبير أمانة فهمته الكبرى بلوغ المقاصد وقد صنت أخلاقي،وأرضيت خالقي وحسبي منها ذاك،والله شاهدي سيبقى وفائي في بلادي وأمتي ويبقى ولائي في مليكي وقائدي فأقول لأخي أبو عبدا لله ولغيره من المتقاعدين ، إن الإسلام يقتضي للعبد أن يعمل مدى الحياة وأن لا يتوقف لأن العمل عبادة ؛ وقد قال تعالى((وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين)) أي :الموت. وهنالك مفاهيم خاطئة عن التقاعد من أبرزها: 1- انقطاع الرزق: فيظن بعضاً من المتقاعدين ، بأن الرزق معلق بالوظيفة فقط ، فإذا تركها انتهى رزقه ودنا أجله ، وهذا يعد من المفاهيم الخاطئة ، التي يتشبث بها البعض ، وقد ثبت من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق ، أن يطلبه بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته). 2- فقد الاحترام والتقدير: يشعر بعض المتقاعدين بأنه فقد الاحترام والتقدير بسبب تقاعده وتقدمه في السن ، ونسي بأن الإحترام والتقدير أمر مأمور به في شريعتنا الغراء ، فقد ثبت من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من إجلال الله إكرام ذا الشيبة المسلم) فأنت أيها المتقاعد لك شرفك ومنزلتك ، وإن فقدت منصبك ورتبتك ، فتقدم في المجالس ، وفي الحديث ، وفي الشراب والطعام ، وحتى في أمور الدين إذا كنت ومن معك في درجة واحدة من العلم. 3- فقد زملاء العمل: لن يفقد المتقاعد زملاءه ، بسبب تركه لوظيفته أبداً ؛ إن كانت بينهم محبة في الله حقاً ، فتجدهم يتزاورون ، ويتفقد بعضهم بعضاً بالسؤال والاتصال ، أما إذا كانت المحبة ليست في الله إنما هي من أجل النصب ، فسرعان ما تزول ، سواءً أثناء العمل أو بعده ، وإن من أوثق عرى الإيمان كما ثبت من حديث ابن عباس - رضي الله عنه –((الحب في الله والبغض في الله عزوجل)). 4- الشعور بالوحدة واليأس: فنجد بعضاً من المتقاعدين ، يشعرون باليأس والوحدة ، وأنهم قد أصبحوا عالة على غيرهم ، فدب اليأس والقنوط في قلوبهم ، وهذه ليست من صفات المسلم القوي الإيمان بالله عزوجل ، قال تعالى: (إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون) أما المسلم ، فصبورٌ مؤمنٌ بوعد الله تعالى ، لا يجد اليأس والوحدة إلى قلبه سبيلاً ؛ وقد قيل:"لا يأس مع الحياة": اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيأسن فإن الفارج الله وهناك سؤال يطرح نفسه في محافل تكربم المتقاعدين ، ماذا بعد التقاعد..؟! فأجيب عليه من خلال النقاط التالية: أولاً:التفرغ للعبادة:إمتثالاً لقوله تعالى (فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب) قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - : (أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها ، وقطعت علائقها ، فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطاً فارغ البال ، واخلص لربك النية والرغبة) فإنك يا أخي المتقاعد إن فرغت من عملك ووظيفتك ، وتقاعدت منهما ، فإن أمامك عمل لا تقاعد منه ، وهو الذي خلقت من أجله قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون): أما والله لو علم الأنامُ لما خلقوا لما هجعوا وناموا مماتٌ ثم حشرٌ ثم نشرٌ فتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ ليومِ الحشرِ قد عملتْ أناسٌ فصلوا من مهابته وصاموا ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيامُ ثانياً:العمل والتكسب: فقد حث الشرع على مواصلة العمل والتكسب قال تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وأبتغوا من فضل الله) وقال عزوجل: (وجعلنا النهار معاشا) وفي هذه الآيات حث للمؤمنين بالسعي لكسب رزقهم وإغناء أنفسهم ، وقد ثبت من حديث عائشة –رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قالإن أطيب ما أكلتم من كسبكم) فينبغي للمتقاعد أن يسعى لطلب الرزق والمعيشة ، بالتجارة أو الإلتحاق بالقطاع الخاص ، أو التكسب بالمهن التي يجيدها مثل الزراعة أو الميكانيكا أو الكهرباء أو غيرها. ثالثاً:القيام بالواجبات الأسرية:قد لا يجد الإنسان متسعاً أثناء العمل الوظيفي للقيام بالواجبات الأسرية على الوجه الأكمل ، ولكنه بعد التقاعد يجد متنفساً للقيام بحقوق الأسرة المسئول عنها أمام الله عزوجل ويكون ذلك بالاهتمام بأمور الأبناء والزوجة والبيت ، ولا يتركها للسائقين والخدم. رابعاً:التفرغ للكتابة والقراءة:إن أمتع شيء ينشغل به المتقاعد ، هو القراءة والكتابة ، فيشغل وقته تارةً بقراءة الكتب العلمية ، المنسوجة على نهج السلف الصالح ، وتارة يشغل وقته بكتابة البحوث العلمية والرسائل والمقالات ، لرفع همته العلمية والثقافية. خامساً:ممارسة بعض الهوايات:من الأمور التي ينبغي للمتقاعد إدراكها بعد تركه للوظيفة ؛ ممارسة بعض هواياته التي كان يحب أن يمارسها أثناء العمل ، مثل القراءة والكتابة واستخدام الحاسب ، والرياضة كالسباحة والرماية والقنص وغيرها. وهناك بعض المحاذير ينبغي للمتقاعد أن يتنبه لها: 1- الفراغ القاتل: فتجد بعض المتقاعدين يشعر بفراغ كبير في حياته اليومية بعد تركه للعمل ، وعدم تعويد النفس على بعض الأعمال الحرة ، وقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في أمر دنياه ، ولا في أمر آخرته) فعلى المتقاعد أن يستفيد من فراغه بما يعود عليه بالنفع والفائدة ، ويجعل نصب عينيه حديث ابن عباس - رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس ، الصحة والفراغ). 2- العجز والكسل:إن العجز والكسل داءان ، سببهما الغفلة وعدم الإهتداء ، يقودان الإنسان إلى القعود وترك العمل ، ولذلك نجد أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم ‘ني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل): وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته حتى إذا فاته أمرٌ عاتب القدرا 3- جلساء السوء:وهم أهل الغراغِ حقيقةً ، فتجدهم ينتقلون من مقهى إلى آخر ، ويجلسون في الطرقات ، يراقبون الناس ، فيحشرون أنفسهم فيما لا يعنيهم ، فينبغي للمتقاعد أن يحذر مجالستهم ؛ فربما أدوا به إلى أمرٍ لا تحمد عقباهُ. 4- التصابي والمراهقة: فتجد بعض المتقاعدين إذا بلغوا الخمسين أو الستين ، يقومون ببعض أعمال الصبيان والمراهقين ، فينبغي لهم النظر إلى معالي الأمور ، والاجتهاد في العبادة ، وترك التصابي ونذكرهم بحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة): فدع الصبا فلقد عداك زمانه وازهد فعمرك مر منه الأطيبُ ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين المهربُ 5- التعدد بلا موجب: فنجد بعض المتقاعدين ، لا يحلو لهم التعدد ؛ إلا بعد بلوغ سن التقاعد ، ويعللون ذلك بأن الوظيفة عن ثلاث زوجات ، وبعد تقاعدهم أصبح الواحد منهم بزوجة واحدة ، وهذا في نظره يعد من العيب والنقصان ، فيبحث عن فتاة ليقترن بها دون موجب شرعي فيهضم حق زوجته الأولى ، وحق الزوجة التي يريد أن يقترن بها ، دون شعور ، حيث أنه قد بلغ من السن مبلغه ، بحيث لا يستطيع الوفاء بحق الزوجتين ، ويحرم نفسه السعادة الزوجية ، فليته فكر في التعدد أيام شبابه إن كان لديه سببٌ يدعوه لذلك: صرمت حبالك بعد وصلك زينب والدهر فيه تغير وتقلب نثرت ذوائبها التي تزهو بها سوداً ورأسك كالثغامة أشيب وأختم هذه المقالة بنصيحة للإمام ابن الجوزي المتوفى (سنة597ه) - رحمه الله – للمتقاعدين في كتابه "صيد الخاطر" (ص 330) حيث يقول مانصه: (وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء ، فإن اتفق معه صاحبة دين قبل ذلك ، فليرع لها معاشرتها ، وليتمم نقصه عندها تارةً بالإنفاق ، وتارةً بحسن الخلق ، وليزد في تعريفها أحوال الصالحات والزاهدات ، وليكثر من ذكر القيامة وذم الدنيا). @khalidmalansary ***