الرسالة الثالثة إلى الشعب الأمريكي : نحن نعلم أن اليهود ظَلَمُوا المسيحيين كثيرا ؛ لأن المسيحيين جاؤوا بدين ينسخ بعض شرائع دينهم ، فهَمَّ اليهود بقتل المسيح - وأنتم تعتقدون أنهم قتلوه وصلبوه - ثم إنهم طاردوا أتباعه ، ونكَّلُوا بهم ، وعلى الرغم من ذلك لم تتنكروا لدين موسى ، بل ما زلتم تقرون بصدقه ، وصدق رسالته ، وصدق كتابه ؛ لأن عيسى صرح بأنه مصدق لدين موسى ومكمل له ، وقد أخبرنا كتابنا «القرآن» بهذا ، فقال على لسان عيسى [ 3 / 50 ] : ( وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) ، ألا فاعلموا أن موقفنا من دينكم ومن دين اليهود كموقفكم من دين اليهود ؛ لأن ربنا أمرنا بتصديق رسالة موسى ورسالة عيسى - عليهما الصلاة والسلام - بقوله : [ 2 /136 ] ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ، ألا ترون أنكم لا تزالون أنتم واليهود تحاربوننا ، وتضيقون علينا في ديننا ودنيانا ، وتظلموننا عمدا صباح مساء ، ومع ذلك نحن نحترم دين موسى ، ودين عيسى ، ونرى الإيمان بهما من لوازم الإيمان بمحمد - عليه الصلاة والسلام - ونرى أن أتباعهما أقرب إلينا من غيرهم من سائر أهل الأديان ، وقد أعلمنا كتاب ربنا أن محمدا - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه فرحوا بانتصار الروم أهل الكتاب على أهل فارس المجوس الوثنين الذين ليس لهم كتاب من الله ، فقال [ 30 / 2 - 5 ] ( غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللهِ ) ، ونحن لا نزال على هذه المشاعر ، لا لأننا نرغب في عطفكم ، أو في نصرتكم ، أو نطمع في قربكم ، أو نخاف من سطوتكم ، ولكن لأن هذا جزء من ديننا ، لا تغيره الأهواء ، ولا المطامع . وفي العصر الحديث - وبالتحديد في القرن السابع عشر - لما قويت شوكة الغربيين تسلطوا على العرب والمسلمين أيما تسلط ، فزاحموهم في ديارهم على خيراتهم ، وأفسدوا عليهم دينهم ، وتقاليدهم ، وأمسكوا بزمام الأمور في بلادهم ، ومكنوا لملوكٍ عليهم رهن أمر سياسييهم ، ثم جعلوا فلسطين كبش الفداء لآمالهم وجرائمهم ، واتحدوا مع اليهود اتحادا غريبا ، استغلالا لِعَنَتِ اليهود أمام العرب ، فاختلقوا لمتديني المسيحية رأيا متضاد الأجزاء ، فنزعوا الكره المتأصل في قلوبهم تجاه اليهود ، وأحلوا مكانه صداقة ، ولم يعجزوا أن يوجدوا تبريرا مقبولا لدى المسيحيين المتدينين من الكاثوليك ، بل ومن البروتستانت اللوثريين الذين تمكنت فيهم تلك الفكرة فيما بعد ؛ فابتدعوا فكرة أن الخلاص وعودة المسيح مشروطان بعودة اليهود إلى فلسطين ، وهي العقيدة « الاسترجاعية » لدى البروتستانت ، وذلك أن الكنيسة ترى أن اليهود لا يمثلون يعقوب « إسرائيل » ، وإنما الذي يمثله حقيقةً الكنيسة والشعب المسيحي ، وأما اليهودية فهي - في رأي الكنيسة البروتستانتية ولا سيما « الماشيحانية » - عقيدة معادية ؛ لأن اليهود أنكروا المسيح المخلِّص ، مع أنهم يحملون التوراة التي تبشر بمقدمه ، حتى صح وصفهم - لدى الكنسيين - بأنهم « أغبياء يحملون كتابًا ذكيًا » ، وهو الذي عبر عنه القرآن بقوله [ 62 / 5 ] : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا ) ، ولهذا صلبوا عيسى بدلًا من الإيمان به ، فعوقبوا - في رأي أهل الكنيسة - بهدم الهيكل وتشتتهم ، وبأن الشتات سيجعلهم يهيمون بلا مأوى ، ولا وطن ، حتى نهاية الزمان ، كما هام قابيل في الأرض ، وهذا التيه - مع تَمسّكهم بشعائر دينهم المبشرة بالمسيحية - يجعلهم «شعبًا شاهدًا» على صدق الإنجيل وعلى عظمة الكنيسة ، فاليهود إذن أداة لنشر المسيحية ، ولهذا ترى الكنيسة الكاثوليكية ضرورة الإبقاء على اليهود - كشعب شاهد - يؤمن في نهاية الزمان بالمسيحية ، ولذا تجب حمايتهم من الاندثار ، وعقد الصداقة معهم ، وقد قيل : «أن تكون يهوديًا ؛ فهذه جريمة ، ولكنها جريمة لا تُوجب على المسيحي أن ينزل بصاحبها العقاب » . وهذا الاهتمام الغربي باليهود لم يؤهل اليهود إلى أن يكونوا جزءا من الحضارة الغربية ، وإنما ظلوا في هامشها ؛ لأنهم ليسوا أصلا من المجتمع الغربي ، فلا مكان لهم في الحضارة الغربية ، وإنما لهم وظيفة خاصة ، لا أقل ولا أكثر ، أي أنهم مجرد أداة لغرض غير يهودي . وقد تَلَقَّفَ تلك النَّظْرَةَ العالَمُ العلماني في انجلترا في القرن التاسع عشر ؛ ليجعل من اليهود عضوا ضروريا في شأن الاستعمار ، لكنه منبوذ ، أي : أنه شر لا غنى عنه ، ويعبرون عن ذلك بأنهم « شعب عضوي منبوذ » ، ف « وعد بلفور » 1917م - مثلا - ينطلق من هذا التصور ؛ لأنه يرفض الوجود اليهودي داخل الحضارة الغربية ، لكن لا مانع لديه أن يرعاه مادام موجودًا خارجها ، وعلى حدودها ، في فلسطين . وهكذا كانت السياسة الغربية تسعى لصالحها - كَنَسِيًّا واستعماريًّا - على حساب الآخرين ، فاتخذوا اليهود أداة - مع اعتقاد الكره لهم - على حساب العرب في فلسطين ، غير آبهين بتقتيلهم وتشريدهم من ديارهم وأموالهم ، ثم يخرج بوش الابن فيما بعد ويتحدث عن الإرهاب ، وكأن ما فعله هو ومَنْ قَبْلَه من الساسة الغربيين ليس إرهابا ، متناسيا انتماءه إلى جمعية «الجمجمة والعظام» !!